لي مع (موزِّع) البريد ذكرياتٌ لا أخالني سأنساها، بمثل ما لا أحسبُ أنَّ ذاكرة الشمَّ عندي سوف تخلو من رائحة الأوراق الأصيلة التي كانت المظاريف بين يديه تحملها، نُبُوءةُ فرح، وقفز، وتجاوز مرحلة طفولة بكّرت كثيراً بالإحساس بما في داخل هذه التي يحملُها موزِّعُ البريد ذات اللَّون... والزَّخم...
ومثل هذه الذكريات كانت كفيلةً بلفْت نظري إلى الخبر الذي جاور تحت آخر حرف في مقال الخميس 21-9-1425هـ بهذه الزاوية تحت عنوان: (البريد) تبدأ القبول في وظائف (موزع بريد)...
يا ااااه، ألا يزال هناك موزِّع بريد بعد أن اختفت الرسائلُ داخل علب صفيحية، بمفاتيح أحدها معك، والآخر في خزينة إدارة البريد؟ أو بعد أن غدت تأتيك مجمّعةً في مظروف كبيرٍ عن سكرتير إدارتك، أو جهة عملك؟... وبعد أن أصبحت أرقاماً تسقطُ عيناك عليها في صندوق الوارد داخل الشاشة عبر الالكترون.. فيدفعك فضولُك إلى تحريك المؤشر نحوها، ومن ثمَّ تجدها تنبسطُ بين عينيك لا ملمس لورقها، ولا رائحة لحبرها؟....
حين كنت في لثْغَة تجربة الكتابة، كانت الرسائل التي يحملها موزِّع البريد إلى بيتنا من الصحف في جدة ومكة والرياض حين نكون في المصيف في الطائف لها رونقٌ وأثرٌ خاصَّان؛ إذْ في مضمونها لا تعدُو أن تكونَ شكراً من رئيس التحرير أو توجيهاً من رئيس القسم، أو طلباً لتحرير الكتابة بشكل آخر، أو اعتذار عن نشر ما يرسل، أو حتى فيما بعد عندما بدأ القراء على تواضع خبراتهم الشَّبيهة بخبراتنا وهم يتجاوبُون ويتفاعلُون.. بَقِي في الذَّاكرة موزع البريد الذي يعتمر غطاء رأسه يلفَّه كالعمامة اتقاء تيار الهواء، ويستقلُّ درَّاجته على مسافاتٍ طويلة، ويودعُ الرسائلَ في جيبين كبيرين من القماش على حافتي الدراجة حيناً أو داخل حقيبة يدويّة يوثِّقها بشريط من قماش تارة، ومن مطاط تارة أخرى، حتى إذا ما رأيته من النَّافذة هرعت بما أملك من سرعة أقفز السُّلَّمات واحدة فثلاث فأربع إلى أن أصلَ قبل أن يصل إلى باب الدار لأستلم منه الرسائل... وقبل أن أصلَ إلى مكاني أكونُ قد فضَضْتُها، وقرأْتُها... وقد تعثَّر رأسي أو تعثَّرت قدماي في الجدار أو (الدَّرج)...، إلى أن أصبحت أتسلَّمُها من خلف الباب..
موزِّعُ البريد يجلبُ الفرحَ، وموزعُ البريد يجلبُ الحزنَ...
إذ لا أنسى حين حمل لي (شيكاً) من الإذاعة بفوزي في مسابقة في برنامج الأطفال.. و(بابا عباس) يهنئني بالجائزة الأولى، وقيمتها ثلاثون ريالاً فيما كانت تثمَّن حينذاك نظير مئات الآن!! على الأقل في إحساس نامٍ لم يكتمل له النَّضج...
ولا أنسى حين حمل لي اعتذاراً عن نشر حروف تتلكأُ وتتعثَّرُ وتعجزُ عن إيصال الفكرة فذهبتُ أبكي أياماً محتجَّة على رئيس التحرير كيف يعتذر عن نشرها وقد سهرت اللَّيل وبذلت الجهد فيها؟!
لكنهَّ لا يدري عن دموعي شيئاً....
ساعي البريد لم يعد يصل بين الناشئة ورؤساء التحرير
ساعي البريد كان رمزاً لأبجدية رائحة الورق وطعم الحبر وفرحة النشأة وبتولية التجربة...
فيما، لم يعد للأشياء ذاتها الإحساس ذاته...
لا أدري، كيف يمكن أن تفقد الأشياء طعمها ورائحتها بينما يبقى الإحساس بها يقظاً حياً؟
|