بحثتُ عن أكثر الكلمات تداولاً، وأوسعها انتشاراً في لغة المسلمين وعلاقاتهم، فوجدتُها تنحصر في ثلاث:
الأولى: الشهادة بشطريها، وهي التي بها يدخل المسلم بوابة الإسلام، ويرددها في مناسباتها الشرعية، وفي أي وقت طلباً للأجر، وتجديداً للتوحيد، وأنساً بربه.
الثانية: البسملة (بِسْمِ اللَّهِ)، وهي استفتاح لكل خير، واستعانة برب العالمين في أداء المهمات وإنجاز الأعمال وطلب نجحها، فالمسلم يقولها كلما بدأ بأمر فردي أو جماعي.
الثالثة: هي تحية السلام (السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ)، وحقيقتها تأسيس العلاقة الراقية، وتأصيل الروابط السامية بين أفراد المجتمع بجميع طبقاته ومستوياته.
وفي هذه التحية - كما في البسملة - تبرز صفة (الرحمة) التي هي أصل في علاقة المسلم بربه، وفي علاقة المسلم بأخيه.
فلماذا إذاً نلقي على الآخرين تحية السلام؟!
تأمَّلْتُ المعاني المحتملة فوجدتُها تدور على معانٍ أربعة:
المعنى الأول: عندما أُلقي عليك هذه التحية، وأُتحفك بها، فإنما ألقي عليك اسماً من أسماء الله تعالى، فهو الملك، القدوس، السلام... وابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنَّا نَقُولُ في الصلاةِ: السَّلامُ علَى اللهِ، السَّلامُ على فُلانٍ، فقالَ لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ: (إنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ، فإذا قَعَدَ أحَدُكُمْ في الصَّلاةِ فلْيقُلِ: التَّحيَّاتُ للهِ، إلى قَوْلِهِ: الصَّالحينَ، فإذا قالها أصَابَ كُلَّ عَبْدٍ للهِ في السَّماءِ والأرْضِ صَالحٍ، أشْهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتخيَّرُ مِنَ الثَّناءِ ما شاء) صحيح البخاري (6328)، وصحيح مسلم (402). فإذا ألقيتُ عليك السلام فمعناه اسم الله السلام عليك؛ أي: أنتَ في حفظ الله ورعايته وكنفه وكلاءته.
ونكتة اختيار هذا الاسم المبارك إنما هي لدلالته على السلامة من كل أذًى، والنجاة من كل شرٍّ، والبعد عن كل مكروه.
هذا معنى محتمل وتأويل صادق في إلقاء التحية وتبادلها بين المسلمين.
المعنى الثاني: السلامة من العيوب، والبراءة من الآفات، فهو دعاء لك بالسلامة بأن يسلمك الله من كل ما تكره في دينك ودنياك. ومما يعزِّز هذا الاختيار ويقويه أن السلام يأتي أحياناً مضافاً إلى لفظ الجلالة، قال الشاعر:
سلامُ اللهِ يا مطرٌ عليها
وليسَ عليكَ يا مطرُ السلامُ
المعنى الثالث: الأمان، فإلقاء السلام عقد أمان بيني وبينك، أُبادؤك به لأول وهلة وكأنني أقول: لا تَخَفْ مني، ولا تقلق من رؤيتي؛ فليس عندي ما أخفيه عنك، لا مؤامرة ولا إسلال، ولا أغلال ولا أحقاد. فها أنا أمام ناظريك صفحة سلام بيضاء، عنوانها عهد صادق، وذمة وثيقة.
والخوف من كل قادم هو عادة الناس عبر العصور وَهِجِّيرَاهُمْ، نعوذ بالله من شر كل قادم.
فإذا حلَّ ديارهم قائلاً: السلام عليكم، زال قلقهم، وتبدَّد خوفهم، واستروحوا للأمان.
ومن هنا يتناسب لفظ السلام عليكم ابتداءً؛ ليكون الرد (وعليكم السلام) رداً للتحية بمثلها، أو أحسن منها.
ولو أن القادم قال: عليك. ثم سكت، لاستُهجن ذلك منه، ورابك أمره، ولم تَدْرِ ما وراءه.
ومن معابثة بعض الأدباء قوله: لا حيَّاك الله إلا بالسلام، ولا مسَّاك إلا بالخير. فهزَّ قلبَ السامع وأوحشه ابتداءً، ثم أنَّسه وأمَّنه انتهاءً، ولذلك كانت تحية المتوفَّى عليك السلام، كما في السنن عنْ أبي جُرَيٍّ الهُجَيْميِّ قالَ: أتَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلامُ يا رَسُولَ الله. قال صلى الله عليه وسلم: (لا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلامُ؛ فإنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحِيَّةُ المَوْتَى) أخرجه أبو داود (5209)، والترمذي (2722)، والنَّسائي في السنن الكبرى (10150).
والعرب كانوا إذا رثوا ميتاً بدؤوا بقولهم: عليك سلام الله، كما في رثاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عليكَ سلامٌ مِنْ أمِيرٍ وَبَارَكَتْ
يَدُ اللهِ في ذَاكَ الأدِيمِ المُمَزَّقِ
قضَيْتَ أُمُوراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا
بَوَائِقَ في أكْمَامِها لَمْ تُفتَّقِ
وقال آخر:
عَلَيْكَ سَلامُ اللهِ قَيْس بن عَاصِمٍ تحية
وَرَحْمتُهُ مَا شاءَ أنْ يَتَرحَّما
مَن أوليتَهُ منكَ نعمةً
إذا زارَ عن شحط بلادك سلَّما
فالسلام هو الأمان والذمة التي لا تُخفر، والحرمة التي لا تُخرق، وكان أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه يقول: (السلامُ أمانُ اللهِ تعالى في الأرضِ)، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) صحيح البخاري (10)، وصحيح مسلم (40).
المعنى الرابع: الصفاء والنقاء والقلب السليم، فكأن السلام يمحو ما مضى من جفوة، وما حدث من اختلاف، فالسلام صفحة جديدة، وعهد مشرق من الود والمحبة والوفاء.
قال بعض السلف: إنه تكون بيني وبين أحدهم الخصومة فيلقاني، فيُلقي عليَّ السلام فَيَلِينُ له قلبي.
فكلمة السلام ليست كلمة مجرَّدة، أو لفظة عابرة تلقيها الألسنة على الأسماع، بل هو نظام للعلاقة، وصناعة الانسجام، والتوافق بين الناس.
السلام اسم وضعه الله في الأرض لمعنًى سامٍ، وهدفٍ راقٍ، فهو من شعار التآلف، وسمة المودة، وشاهد المحبة، وهو بداية التعارف، ومعه تزول الوحشة، وينمحي الخوف من القادم، وتظهر مخايل الخير وتباشير النُّجح.
والسلام تدريب على التواضع ورياضة النفس واحترام الآخرين.
فالناس أمام إلقاء تحية السلام عليهم سواسية، لا يتم تصنيفهم أو فرزهم، ولذا تلقي التحية على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف، وهذا من شأنه أن يشحن نفس الإنسان بشريف المعاني، وجليل المراتب، وسامي الأهداف.
دَعْنِي أسألك ونفسي: لماذا تنهار العلاقة في مجتمع السلام بين قوم جمعتهم روابط العقيدة، وأحقاب التاريخ، وحدود الجغرافيا، وتطلعات الغد؟! وهم محاطون بجليل المخاطر التي تهدِّدهم بالإفناء، ثم هم يلقون تحية السلام بوجوه صادَّة، وألسنة ملحونة، وقلوب ملأى من الغيظ.