ليس هناك أي سيارة مهما كانت ذكية أو كفؤة في استخدام الوقوف تستطيع القضاء على تمدد الإعمار الذي يلتهم الأراضي وهو أحد الآثار الوخيمة للاعتماد المتزايد أبداً على السيارات وأحد العوامل الرئيسية على تعزيز وجودها.
وبالنسبة لمعظم الناس، فإن القدرة على امتلاك التقنيات الجديدة ليست أكثر من المقدرة على امتلاك السيارات التقليدية.
وزيادة على ذلك، فإذا كان تخضير السفر بالسيارات من شأنه مجرد استدامة السعي المعتاد للتنقل والانتقال فإنه حتى أصحاب السيارات أنفسهم لن يكون بإمكانهم الوصول إلى الأماكن والأشياء التي يريدونها بطريقة أفضل.
ففي عام 1950م كان هناك سيارة لكل 46 إنساناً بالنسبة للعالم ككل. وتنامى أسطول السيارات العالمي بصورة سريعة عندما بدأ الناس في الدول الصناعية يمتلكون السيارات في الخمسينات والستينات، الأمر الذي ضاعف أربع مرات العدد الإجمالي للسيارات بحلول أوائل السبعينات.
وعندما أخذ سوق الدول الغنية الشاسع هذا في الاقتراب من نقطة التشبع، تباطأ نمو السيارات العالمي على الرغم من معدلات النمو العالية في أعداد السيارات في الدول النامية وأوروبا الشرقية. واتسعت ملكية السيارات من سيارة لكل 18 فرداً في عام 1970م إلى المستوى الحالي المتمثل في سيارة لكل 8 أفراد.
وعلى الرغم من تباطؤ النمو في أعداد السيارات في الدول الصناعية، بيد أن التزايد في عدد الكيلو مترات التي تقطعها السيارات لم يتباطأ. فما بين عامي 1970م و2000م ازداد عدد الكيلو مترات التي قطعتها السيارات بنسبة 20% أعلى من نسبة تسجيل السيارات الجديدة.
ويبدو جلياً ذلك في تجربة أمريكا وكيف أن السيارة وهي تتحول من مجرد نوعٍ من الكماليات إلى ضرورة حياتية، إلا أنها لم تسهم إلا بالقليل في تحسين فرص الوصول إلى الأماكن المقصودة.
ففي العقود الأولى من القرن الماضي، كما تقول مارسيا دي لاو. كان من المؤكد أن بإمكان أصحاب السيارات في أمريكا القيام بحاجاتهم الأساسية من السفر بصورة أسهل وأسرع مما كان عليه الحال بالنسبة لهم قبل امتلاكهم للسيارات.
بيد أنه في وقت مبكر مثل أوائل الخمسينات، لم تعد السيارة نوعاً من الكماليات في أمريكا.
ففي ذلك الوقت، أصبح عدد السيارات بالنسبة للفرد الواحد مثل تلك النسبة التي أصبحت لدى بريطانيا فيما بعد عام 1980م وأدى التوسع في السفر في أمريكا، بلا هوادة، رغم الاقتراب من نقطة التشبع تقريباً في امتلاك السيارات، إلى رفع عدد الكيلو مترات التي يقطعها الشخص العادي بالسيارة من 3800 في عام 1950م إلى 10200 كيلو متر عام 2000م.
وتعكس الزيادة المطردة في قيادة السيارات لا مجرد ازدياد طول رحلات السيارات بل تزايد عددها كذلك.
فقد ارتفع عدد رحلات السيارات السنوية التي تقوم بها كل أسرة من 1400 رحلة عام 1970 إلى 1900 رحلة عام 2000م.
ويعكس بعض هذه الزيادة التغيرات التي طرأت على أوضاع الأسر، مثل عدد الرحلات الزائدة للعمل التي تقوم بها النساء العاملات خارج المنزل.
ولكن الكثير من هذه الرحلات يعكس الحلقة المفرغة التي يقود الاعتماد على السيارات فيها إلى عدم الكفاءة في استخدام الأراضي، والذي ينجم عنه زيادة قيادة السيارات. حقا إنها حلقة مفرغة كثرة سيارات تؤدي لنقص في كفاءة الأراضي تؤدي إلى زيادة قيادة السيارات.
لقد تحوّل نمو المدن والضواحي خلال العقود الأخيرة بشكلٍ لافت، بعيداً عن المجتمعات المتراصة التي سادت في الماضي الذي سبق ظهور السيارات نحو الامتدادات العمرانية متناثرة السكان.
وأصبحت أنماط استخدام الأراضي في الوقت الحاضر غير ملائمة فيما يتعلق بالمواصلات، إذ لا تتطلب مجرد القيام برحلات طويلة، وغالباً لا تنفع فيها إلا السيارة بصورة خاصة، فحسب بل تتطلب رحلة خاصة لكل غرضٍ من الأغراض.
ويمكن رؤية آثار استخدام الامتدادات العمرانية في عدد الرحلات اليومية التي يقوم بها الناس لأداء أعمالهم.
والامتدادات العمرانية المعدة على أساس أن ساكنيها يمتلكون سيارات هي عالية التكلفة لأكثر من سبب، فالخسارة الناجمة عن هذا النوع من المساكن تتضمّن فقدان الأراضي الزراعية الثمينة واختفاء أنواع من النبات والحيوانات نتيجة لتقلص الغابات وغيرها من المناطق الطبيعية البيئية.
كما أن تقديم خدمات التخلص من مياه الفضلات وغيرها من الخدمات للمساكن المتباعدة المتناثرة هنا وهناك يكلف الحكومات المحلية أكثر بكثير بالنسبة للأسرة الواحدة في المعدل المتوسط.
كما يصيب الهُزال الصحة الاقتصادية للمدن مع انتقال الناس والوظائف إلى الضواحي الخارجية.
ويؤدي هذا الاستنزاف إلى حدوث أقسى المصاعب لسكان المدن الذين لا يملكون القدرة على الانتقال للعيش في الضواحي، وبحكم أنهم لا يملكون سيارات، لا يستطيعون الوصول إلى أماكن العمل القائمة في الضواحي.
ولربما كانت أكثر التكاليف انتشارا بالنسبة للامتدادات العمرانية أيضاً هي تلك التكاليف التي لا يمكن تحديدها من الناحية الكمية.
فالتطوير الإسكاني المتجانس ذو الكثافة القليلة ظل يرتبط بالعزلة الاجتماعية التي تزداد سوءاً، وبفقدان مفهوم الجيرة الحسنة. ففي كثيرٍ من مثل هذه الامتدادات العمرانية يشبُّ الأطفال وهم عاجزون عن اللعب مع أصدقائهم ما لم يقم أحد كبار السن بنقلهم بالسيارة إلى أماكن أخرى يوجد فيها أصدقاء لهم.
إن توفير الوقت - المزعوم - الذي يصبح ممكناً نتيجة لسرعة السيارات، يبدو سراباً بصورة خاصة، ويتبدد على ضوء الاختناقات المرورية التي تشل المدن الكبرى في العالم.
إذ توحي المقارنات العالمية بأن التنقل بالسيارات يوفّر من الوقت أقل مما يُفترض. ويسوق وايتليغ مثلاً الأدلة على أن الناس ينفقون الوقت نفسه تقريباً عند السفر، بغض النظر عن مدى المسافة التي يقطعونها. وعلى حد قوله: فإن معنى هذا العمل التجريبي هو أن الوقت الذي نوفّره نصرفه في قطع المزيد من المسافات.
مع ذلك، وفي خاتمة المطاف، فلابد لنا من إصلاح استخدام الأراضي. وسيتطلب الأمر تبني أشكال السفر المحمودة بصورة أكبر، وسيعزز كذلك التغييرات الأساسية على الطريقة التي يتم بها رسم النشاطات على طول المنظر الطبيعي وعرضه، إذ كلما قصرت المسافة زاد احتمال قيام الفرد الواحد منا بتحقيق ما يريد تحقيقه دون حاجة إلى الصعود إلى السيارة.
وقد آن أوان ذلك.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية |