* الجزيرة - خاص:
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
سوء الظن من أخطر السلوكيات التي قد يبتلى بها الإنسان، لأنها تهدد بتدمير علاقاته مع أرق الأقرباء، وتمتد لتحرق علاقاته الاجتماعية بصفة عامة، ليكتوي بنار هذا السلوك سيئ الظن نفسه، قبل أن يصل خطره إلى المجتمع بأسره.
لكن لماذا يتمكن هذا السلوك المشين والذي حذر منه الإسلام من نفوس البعض؟.. وما هي الآثار المترتبة على هذا السلوك البغيض على مستوى الفرد والمجتمع؟.. وما هو العلاج الأمثل له؟
التسلي بشؤون الآخرين
بداية يقول معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد رئيس مجلس الشورى وإمام وخطيب المسجد الحرام: إن من صفات المجتمع المسلم أن يأمن الناس بعضهم بعضاً، ويأنس بعضهم ببعض، صدورهم منشرحة، وسرائرهم صافية، ونواياهم حسنة، لكن قد يحدث أن يندس بين هؤلاء من يتتبع السقطات، ويفرح بالهفوات، ليتندر بهذا ويشي بذلك، وقد يكون عنده فضل مال يستريح في ظلاله، فلا هم له إلا بالتسلي بشؤون الآخرين وأشيائهم، استطالة وتهكماً وازدراءً وتنقصاً، همزاً ولمزاً، ونبزاً، وغمزاً: {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ {11} مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}.
وصاحب الهوى والأغراض لا يجد متنفساً لما في صدره إلا تلفيق الأكاذيب وتزوير الأخبار متنصلاً عن المسئولية العظمى، مبتعداً عن شرف أمانة الحديث، وحفظ حقوق المسلمين، ونعلم جميعاً أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، يخرج العالم من السنة إلى البدعة، ويوقع صاحب الزهد في الرياء والسمعة، يجر الحاكم إلى الظلم والصد عن الحق.
وإذا وقع الهوى في الأخبار والأقوال كان مطيتها إلى الكذب وسوء الظن: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.
ومما يؤسف له أن في المجتمعات المسلمة مجالس ومنتديات لا هم لأصحابها إلا القيل والقال والخوض فيما لا يفيد، يتناقلون الأحاديث دون وعي أو تثبت، يلصقون بهذا ما ليس فيه، ويظنون بذلك ظن السوء، مطيتهم في ذلك (قالوا وزعموا)، وبئس مطية الرجال زعموا.
ويضيف معالي الشيخ بن حميد: وإذا ضعف الوازع تجرأ المرء على الاستخفاف بالحرمات، وقل عنده احترام الناس، واستمرأ الكذب، واتخذ من الشبهات مطايا، بل قد لا يتورع أن يدلي بشهادات كاذبة وأقوال ملفقة، فهو قليل المروءة، صفيق الوجه، يفرح بالكلمة السيئة ليشيعها في الناس من غير نظر في العواقب.
وبهذا وأمثاله تشيع البلبلة، وتسري الظنون والقلاقل، وتعيش الأمة في حدس وتخمين مما يهدد مصالح الجماعة وينشر الوساوس والمخاوف، ويؤدي إلى اضطراب الأحوال، بل قد يقود إلى الاستهانة بالكرامات والاعتداء على الأنفس والأموال، والوقوع في الأعراض وقتل المعنويات، كما إن السماح بانتشار الشائعات القائمة على الظن السيئ، وقبول كل خبر وعدم التروي، يولد التحسس، وينبت التجسس ويجر إلى تتبع العورات والتطلع إلى السوءات، ذلك أن الباطل إذا كثر ترديده وطال التفكير فيه انقلب عند الناس في حكم الحق، وحينئذ تقع الواقعة على المتهمين المظلومين، ولعل هذا هو السر في النهي عن التجسس بعد الأمر باجتناب الكثير من الظن في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
ومن الأسرار في هذه الآية الكريمة، الأمر باجتناب كثير من الظن لأن بعض الظن إثم، فيجتنب الكثير من أجل منع القليل، وفي الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)، مخرج في الصحيحين وغيرهما.
فالظنون السيئة تنشأ عنها المكائد والطعن في الأنساب والأعراض، وبسببها تنصب حبال المكر وشباك الخديعة فتحصل الفرقة والشحناء، ويذل العباد، ويتمكن الأعداء.. وتطغى الأنانية وتتنزع الثقة، وتسود العداوة.
وكم أدى سوء الظن وعدم التثبت في الأخبار إلى أهوال ما بعدها أهوال، أُزهقت نفوس، وأُضيعت أموال، وتشتت أسر، وخُربت بيوت، وقُطعت أرحام، كما أن التعجل وعدم التأني في هذه القضايا الخطيرة يفسد على أهل العقول عقولهم، ويذهب برويتهم وتفكيرهم، فيصبح العيش مريراً، وتصبح الحياة سعيراً، لذا لا بد من التؤدة والثبات حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها وتنزلق في مجاهل الحوادث والأحداث، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وشاية المغرض الحاقد
ويستطرد معالي الشيخ بن حميد: إن الشجاعة كل الشجاعة، والبطولة حق البطولة حين يملك المرء نفسه عن مثل هذه السلوكيات، ويملك الزمام أن يفلت بسبب كلمة طائشة من أحمق، أو وشاية مغرضة من حاقد.
وحق المؤمن على أخيه أن يحمى ظهره وعرضه، وتصان كرامته ومعنويته إلى أن يتبين بوضوح ما يستحق عليه المساءلة والمؤاخذة، لذا يجب على الفرد والجماعة المسلمة وكل مسؤول ألا يقبلوا ما يصل إليهم من أخبار أو يصدقوا الأقاويل في المؤمنين إلا بعد التثبت والتبين، حذراً من الإضرار بالناس في أنفسهم وسائر حقوقهم ومتعلقاتهم، كما ينبغي أن يسود حسن الظن بالمؤمنين والاطمئنان إلى طويتهم، والثقة بحسن نواياهم، وتغليب جانب الصدق في أقوالهم والخير في تصرفاتهم، ما دامت أحوالهم الظاهرية مأمونة، والمساوئ مستورة.
وقد قيل: إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فقد سلك مسالك الحكمة، والمسلمان يجلسان بأمان الله، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره بغير حق.
ومن رزق حياء مع قلة أذى وصلاحاً مع قلة كلام، وعملاً مع قلة فضول، فقد أوتي محاسن الأخلاق، ونقول لكل مسلم: ليكن حظ أخيك منك ثلاثاً: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه، ولتعلم أن الاشتغال بالطعن في الناس وذكر نقائصهم، والتسلي بالخوض في معائبهم وإفشاء مقالة السوء بينهم من طبائع النفوس الشريرة والصدور الحاقدة، وهو من أظهر الدلائل على قلة التوفيق والانشغال بما لا يفيد، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.
السلوك البغيض
من جانبه يقول د. عقيل بن عبدالرحمن العقيل عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض: سوء الظن سلوك ذميم، ومنهج سيئ، ومرض خطير يضر بالشخص سيئ نفسه، ومن يتصل بهم بعلاقة اجتماعية، أو تربطه بهم علاقة عمل ونحو ذلك.
وحقيقة سوء الظن: أن المرء يتصور في الناس أشياء ليست فيهم صورها له شيطانه، وهواه فليس معه دليل قاطع وبرهان ساطع واضح يدل على ما وقع في نفسه من ظنون، ولكنه أقنع نفسه بهذا الشيء الذي ظنه، ثم بنى على ذلك أموراً أخرى فاستسلم لهذا الظن أولاً، ثم بنى سائر تعاملاته عليه.
ولا ريب أن هذا أمر محرم، والله سبحانه وتعالى نهى عن الظن، وطالبنا باجتناب الكثير من الظن لأن بعض الظن إثم، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، ولأن البعض إثم حرَّم الله الكثير، وما ذاك إلا لأن الظن مزلق يهوي بصاحبه إلى مهاوي الردى، ويقربه من كل شر، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك فعن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) متفق عليه، فالجدير بالمسلم أن يربأ بنفسه عن الظن، وأن يتعامل مع الناس وفق ما يرى، ويسمع، وحسبه ذلك.
أما أسباب تمكن هذا السلوك البغيض من البعض فهي حقيقة كثيرة، ولعل من أبرزها، ضعف الإيمان، وقلة الخوف من الله -عز وجل- فذلك دافع لظلم الناس، والظن ضرب من ضروب الظلم، وقد يكون مرده لأسباب نفسية كعدم إحساس المرء بالثقة في نفسه، وشعوره أنه أقل من غيره، وإحساسه أن هناك من يكيد له، أو يرغب في الانتقام منه، أو إقصائه وهكذا، إضافة إلى ذلك وجود خلل في سلوكيات سيئ الظن بنفسه، فالذي يسرق قد يظن أن الناس كلهم مثله سراق، والشاب الذي يعاكس الفتيات يظن دائماً أن أي شاب يراه هو مثله بنفس السلوك، بل يرى أخته مثل تلك الفتاة التي يعاكسها وهكذا، وكما جاء في الأثر (كاد المريب أن يقول خذوني) فمن دافع تصرفاته، وخداعه للناس أو الاحتيال عليهم يتصور أنهم سيعملون مثل عمله سواءً من فعل معهم ذلك السلوك، أو غيرهم فهو شعور تولد نتيجة سوء أفعاله.
المشكلة والحل
ويضيف د. العقيل: ولا ريب أن لهذا المسلك المشين آثاره السيئة على المرء في نفسه على أخلاقه، وعلى نفسيته، وعلى عطاءاته فلن يثق بأحد، ولن يصدق أحد، ولن يتعايش مع أحد، يخيل إليه أن الكل يخدعه، والكل يكرهه، والكل يحاربه، فلا يألف أحداً، ولا يثق بأحد، بل يؤثر عيشة الوحدة، والعزلة، ويكون انطوائياً منبوذاً في مجتمعه، وهذا سينعكس سلباً على علاقته بالآخرين سواء أقاربه من زوجته وأولاده، أو الأباعد، أو من يتعامل معهم في مقر عمله، أو تجارته، ونحو ذلك فإن الناس إذا عرفوا هذا السلوك منه أبغضوه، وكرهوه وكرهوا التعامل معه بل يحمدون الله أن عافاهم من حاله ولا نسأل بعد ذلك عن واقع من ابتلي بهذا الداء في بيته، وما يحصل له من مشكلات مع زوجته وأولاده ربما تصل إلى الطلاق وتمزق الأسرة، فسوء الظن سيفسد عليه حياته الأسرية غالباً وذلك بسبب ما قد يلصقه بزوجته من ظنون وقد يصل الأمر إلى الشك فيها، أو اتهامها بالخيانة بسبب اتصال هاتفي، أو سيارة وقفت بالشارع.
وحول وسائل علاج هذا الداء يقول د. العقيل:
أولاً: يجب على المرء أن يدرك خطر هذا الداء، وأنه معصية لله -عز وجل- وذنب عظيم يجره إلى ذنوب أخرى، فعلى المرء أن يتقي الله -عز وجل-، وأن يعرف خطر هذا السلوك وما يثمر من ذنوب، وآثام
ثانياً: أن يستبدل هذا بما هو خير، فيظن دائماً بإخوانه الظن الحسن فيغلق جميع الأبواب على الشيطان، وليذكر سلوك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم-.. في حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة -رضي الله عنها- فلما سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة قال: (أهلك يا رسول الله وما علمنا عليهم إلا خيراً) نتيجة إحسانه الظن بعائشة، وكذلك زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش لما سألها النبي - صلى الله عليه وسلم- عن عائشة وما قيل فيها مع أنها ضرة لها قالت: احفظ سمعي ولساني والله لا أقول إلا خيراً، أو كلمة نحوها لأنها أحسنت الظن بأم المؤمنين عائشة، وأثر عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: لا تظن سوءًا بأخيك لكلمة قالها وأنت تجد له في الخير محملا، أو كما قال -رضي الله عنه- فكان منهجهم مبنياً على إحسان الظن بالناس.
ثالثاً: على الإنسان أن يكل الأمر إلى الله وتعمل ما فيه صلاح دينه ودنياه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه.
رابعاً: الا يستسلم المسلم للظنون فإنها من إزاء الشيطان ولو استسلم المرء لما يلقيه الشيطان في نفسه من ظنون لأفسد عليه عبادته ودينه وسلوكه ولأفسد عليه دنياه وآخرته.
خامساً: العلم بأن هذا السلوك مرض علاجه يكون بالصبر والمصابرة وإطراح الشكوك واحتساب الأجور. بإذن الله - لترك هذا السلوك ورده والابتعاد عنه وعن نوازعه ودوافعه.
سادساً: قطع الصلة بكل من يورث لدى الإنسان هذا السلوك المشين، ليعلم أنه رفيق سوء مرشد إلى سوء وأنه كاذب غير صادق، وأنه غاش ليس ناصح.
الأخلاق الذميمة
أما د. شيخة بنت مفرج المفرج الأستاذ المساعد بقسم السنة وعلومها بكلية أصول الدين بالرياض فتقول: إن الظن هو علم دون يقين، فالقول به قول غير قطعي الثبوت ولا سيما إذا اتصف الظن بصفة السوء، وسوء الظن من الأخلاق الذميمة التي تجلب الهم والغم، وتقطع الأواصر، وتذهب المودة لذلك جاء القرآن محذراً من هذا الخلق الذميم كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، كما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا التحذير من هذه الصفة السيئة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).
ومثل هذا الخلق الكريه نجده من فئات من الناس، لا هم لهم إلا تفسير كل تصرف أو قول على أسوأ احتمالاته حاسباً كل صيحة عليه وكل مكروه لا يُقصد به إلا هو وكلٌ يريد الكيد له فإن رأى شخصين يتحدثان ظن أنهما يسبانه ويستهزئان به، وإن سمع متحدثاً في مجلس يتكلم عن تصرف ما ظن أنه المقصود بذلك.
ولعل من أكبر أسباب وجود هذا الشعور والإحساس ما يلقيه الشيطان في النفس من ظنون سيئة وأوهام كاذبة ليوغر نفسه على إخوانه المسلمين ليفسد ما بينه وبينهم، خاصة إذا وجد الشيطان أمامه نفساً فارغة لا هم لها ولا شغل إلا تتبع أقوال وأفعال الآخرين وعرضها على فكره المريض ثم تفسيرها بمزاجه العكر على أسوأ تفسير.
كما أن الشخص الذي يتصف بسوء الظن غالباً ما يكون ذا نفس مضطربة وشخصية مهزوزة وغير سوية، ويظن بالناس سوءًا، كما قال المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه لقول عدائه
وأصبح في ليل من الشك مظلم
أمراض نفسية وعضوية |
وتضيف د. المفرج: ومما لا شك فيه أن للظن السيئ مردوداً سلبياً على الإنسان من عدة نواح:
أولها: نفسه التي بين جنبيه فيصبح قلقاً مهموماً، مغموماً، إن نام على فراشه بات يقلب أقوال من حوله وأفعالهم، وما تعنيه، وما يمكن أن يحملها عليه من محامل سيئة، وإن قام في نهاره أشغل جل أوقاته في التتبع والترصد فخسر دنياه وأخراه، نسأل الله السلامة والعافية.
وثانيها: صمته، فهو قلق مهموم يورثه ذلك أمراضاً عضوية سببها الضغط النفسي كالسكري والضغط والقولون وغيرها.
وثالثها: مجتمعه، فنجده يعيش وحده وقد نبذه الأهل والأصدقاء والجيران لسوء ظنون فبات يرى الناس كلهم له أعداء فيؤثر ذلك سلباً على بره بوالديه وصلته لأرحامه وعلاقته بجيرانه.. إلخ.
ورابعها: أسرته المحرومة من انتمائه لها، فإن كان فرعاً من هذه الأسرة آذى والديه وإخوته بهذا التصرف وإن كان أصلاً أي والداً آذى أبناءه وبناته وزوجته بظنونه وقلب بيته من جنة وارقة في ظلال المحبة والألفة إلى جحيم يصلي كل من في داخله.
فهو لا يستريح ولا يريح كما قال الشاعر:
ما يستريح المسيء ظناً
من طول غمٍّ ولا يريح |
وأما العلاج من هذا المرض فيكون باليقين التام بعدالة رب العالمين، وحسن التوكل على الله وسلامة الصدر من الغل والحسد، والتسلح بالعلم الشرعي والإيمان الذي يدفع وساوس الشياطين، ولكن يبقى أن إحسان الظن ليس مع كل الناس، فالمؤمن ليس فطناً لا يُخدع، فلا يُحسن الظن بعدوه، أو من يريد خداعه فهذه سذاجة لا حسن ظن.
التحذير من سوء الظن
ويقول الشيخ خالد بن جريد العنزي عضو الدعوة والإرشاد بمكة المكرمة: إن سوء الظن من أعظم الآفات على العقيدة والأفراد والمجتمعات بأنواعه المختلفة وأشكاله المتباينة، ألا وأن أشدها خطراً وأعظمها جرماً سوء الظن بالله، ولذلك حذر الله منه وبيّن سبحانه أنه من صفات أهل النفقات والشرك {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}، ولهذا توعد الله الذين أساءوا الظن بربهم بالنار {ذلك ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ...} ولهذا فإن من أساء الظن بربه تعالى فقد جمع خصال الشر كلها، وقال ابن عباس رضي الله عنه: الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عز وجل.
والمعاصي من أعظم الأسباب الجالبة لسوء الظن بالله تعالى، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وأما المسيء المصرّ على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه، وهذا موجود في الشاهد فإن العبد الآبق المسيء الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به، ولا يجامع وحشة الإساءة إحسان الظن أبداً، فإن المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن الناس ظناً بربه أطوعهم له)، كما قال الحسن البصري: (إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وأن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل).
ويشير العنزي: أن من تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه، فالذي حمله على حسن العمل حسن الظن، فكلما حسن ظنه بربه حسن عمله.
وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز، كما في الترمذي والمسند من حديث شداد بن أوس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)، وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن) فمن حسن الظن إحسان العبادة ومن سوء الظن الذنوب والمعاصي، ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإحسان الظن بالله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا هو حسن الظن بربه).
أهل الابتداع والغلو
ويضيف العنزي قائلاً: ومن صور إساءة الظن، سوء الظن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو سبيل للبوار والهلاك {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا}.
وهذا فعل أهل الابتداع والغلو والنفاق، فأهل الغلو ساء ظنهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ظنوا به ظن السوء وقال قائلهم اعدل يا محمد، وأهل البدع زادوا ونقصوا في دين الله تعالى كأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبلغ الرسالة ولم يؤد الأمانة، ومن صور سوء الظن، سوء الظن بالمسلمين فإذا تمكن قضى على روح الأفلة، وقطع أواصر المودة، وولد الشحناء والبغضاء ولهذا نهانا الله تعالى عن كثير من الظن فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}، قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير الظن: (فالظن هنا وفي الآية هو التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلاً ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك).. إلى أن قال -رحمه الله- (والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب).
ويؤكد أن سوء الظن بالناس دلالة بينة على خبث الباطن وسوء الطوية، لأن سيئ الظن امتطى أكذب الحديث ألا وهو الظن الذي حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا) الحديث.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم المسلمين حسن الظن، فقد جاءه رجل يقول: (إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل لك من إبل؟ قال نعم قال: فما ألوانها: قال: حُمر. قال: هل فيها من أورق؟ (يعني فيه سواد) قال: إن فيها لأورقاً، قال: فأنى أتاها ذلك. قال: عسى أن يكون نزعة عِرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعة عِرق) (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
والظن الحسن مندوب إليه مأمور به لقوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ}، ولهذا كان إحسان الظن ديدن السلف، وهديهم وطريقتهم حتى قال بعضهم: إني لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذراً لا أعرفه.
لكن بعض الناس تنكب الطريق وترك الهدى وتبع هواه، فحكم على الناس بظنه السيئ فنفرت القلوب وحصلت الفرقة وقلت الألفة وتعامل صاحب الظن السيئ مع الآخرين بنظرة سوداوية فجعل من الخطأ خطيئة ومن الخطيئة كفراً فحرم فضل صلة الرحم ومودة القربى وسكن الزوجة وعاطفة الأبوة وألفة الجوار.
وأساء الظن بولاة أمره فحرم فضل السمع والطاعة، ولا ننسى أن الخوارج أساءوا الظن بعلي رضي الله عنه، وقالوا إنه لم يحكم بما أنزل الله فخرجوا عليه وقاتلوا الصحابة وفتحوا باب الفتنة، وخوارج العصر أصحاب الفكر المنحرف أساءوا الظن بولاة أمرهم وعلمائهم وبمجتمعهم فحملوا السلاح وأزهقوا الأنفس وروعوا الآمنين ودمروا الممتلكات ونالوا من قدسية حرم الله الآمن وكل ذلك اتباعاً للظن، وإن الظن لا ينبغي من الحق شيئاً، فهنيئاً لمن حسن ظنه بإخوانه وحملهم على المحمل الطيب، وختاماً فإن حسن الظن بالمسلمين لا يتنافى مع النصح لهم وبذل المعروف إليهم والرد على المخطئ بمنهج شرعي صحيح بياناً للحق ونصرة للدين.
|