رغم ما هيأ الله سبحانه وتعالى في رمضان، من مكاسب وأعمال جزاؤها لا يعد له جزاء، لأنها من خصائص هذا الشهر الكثيرة، فإن منطوق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما جاءه جبريل وهو على المنبر فقال له: رغم أنف امرئ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين، فقلت آمين، ثم قال: رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين فقال صلى الله عليه وسلم: آمين، ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل آمين، فقال عليه الصلاة والسلام آمين.
وما ذلك إلا لمكانة شهر رمضان، وتهيئة النفس للعمل، باعانتها عليه، ومضاعفة الأجر في هذا الشهر، لأنه شهر الطاعات وكثرة العتقاء فيه من النار، كل يوم، وفي آخر ليلة منه، وأن الله سبحانه لمكانة الصيام في هذا الشهر الذي عاندت الأمم السابقة، وغيّرت في تشريع الله لهم، وخالفوا هدي ربهم، على ألسنة أنبيائهم، فكان من فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أن حرصوا على الاستجابة وحسن الاتباع، فكان لمن امتثل أمر الله، وهدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الجزاء الأوفى مع تلك الخصائص الكثيرة، والتي منها:
- أن جميع أعمال العباد تتولاها الحفظة الكرام الكتبة، إلا الصوم فإن الله سبحانه يقول عن الصائم: يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فالصوم لي وأنا أجزي به. ومن تولى الله سبحانه وتعالى جزاءه، فاز وغنم، وعطاء الله لا حد له. فنسأل الله سبحانه لنا ولاخواننا المسلمين حسن العمل، وخلاص النية والقبول.
- أن الله تفضل على الصائمين، بتحديد باب من أبواب الجنة اسمه الريان، يدعون منه للدخول: يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون، فإذا تكامل عددهم أغلق, ولا يدخل معه أحد غيرهم، وهذه هبة من الله عظيمة، وشرف حيث يدعون على رؤوس الأشهاد.
- انه شهر أوله رحمة ووسطة مغفرة, وآخره عتق من النار، وفي أول ليلة من رمضان، تفتح أبواب السماء فلا يغلق فيها باب حتى يكون آخر ليلة منه، حيث ترفع الأعمال الصالحة الكثيرة، التي يتسابق فيها المسلمون في هذا الشهر واقرأوا ان شئتم قول الله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } (10) سورة فاطر.
- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر في حديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد بقوله الكريم: (أعطيتْ أمتي في شهر رمضان خمساً لم يعطهن نبي قبلي: 1- إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، نظر الله إليهم، ومن نظر الله إليه لم يعذبه. 2- خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك، 3- أن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة، 4- أن الله سبحانه وتعالى يأمر جنته فيقول لها: استعدي وتزيني، لعبادي أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا، إلى داري وكرامتي. 5- إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعاً, فقال رجل من القوم: أهي ليلة القدر؟ قال: لا ألم تر إلى العمال، يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وُفُّوا أجورهم).
- إن الله يعين الصائم، بما يقويه على العبادة في هذا الشهر، بتلاوة القرآن، وتفقد المحتاجين, ورقة القلب، وصلة الرحم، وقيام الليل، حيث أخبر الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام: أن من قام مع إمامه حتى ينتهي كتب له قيام ليلة). وهذه الإعانة تبرز في مثل تهيئة الفرص، وتصفيد الشياطين الذين يلهون العباد ويثبطونهم عن العمل، وتضيق مجاري الدم على الشيطان، ويخفف الله على عباده ثقل الصيام، ويؤجر الصائم بتوسيع النفقة فيه على نفسه ومن حوله.
ثم يأتي في العشر الأواخر، وهي أعمال الختام والوداع، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجود بالعباد في رمضان ولكنه في العشر الأواخر، كما قالت عائشة رضي الله عنها: أجود ما يكون، ويشد المئزر ويوقظ أهله ذلك أن من فضائل الأعمال في العشر الأواخر من رمضان الاعتكاف.
والاعتكاف هو لزوم المسجد، سواء كان المسجد الحرام، أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المسجد الأقصى، وهذه هي الثلاثة المساجد التي تشد إليها الرحال، ويرى كثير من العلماء أن الاعتكاف يكون في كل مسجد فيه إمام ومؤذن، وليس للاعتكاف حد محدود فقد ينوي ساعة، وقد ينوي المعتكف العشر كلها، فإذا اعتكف المسلم، وأفضله ما كان مع الصيام، فإنه لا يخرج من المسجد الذي اعتكف فيه إلا لحاجة، فقد روي الدّيلمي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: (من اعتكف ايماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ومن اعتكف فلا يحرم عليه الكلام.. رغم أ نه متفرغ للعبادة.
- وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، يعني أفضل من العبادة 83 سنة وأربعة أشهر، وقَّل من يبلغ عمره هذا السن فقد أخرج ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه مرفوعا: (أن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم).
- ومن رحمة الله بعباده أنها لم تكن في ليلة معينة حتى يحييها الناس، ويتركوا بقية الليالي، وإنما لكي يزيد أجرهم وعملهم الصالح أُنسي الرسول ذلك، فقد أخرج مسلم في صحيحة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا أيها الناس إنها كانت ابينت لي ليلة القدر، وإني خرجت إليكم لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان، معهما الشيطان، فنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)، وقد اختلف العلماء في دلالة اليوم: التاسعة والسابعة والخامسة، هل هي التي تبقى أو التي تمر، لكن رواية البخاري عن ابن عباس توضح أنها التي تبقى وهذا نصها: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، وفي سابعة تبقى، وفي خامسة تبقى).
وجاءت روايات في تحديدها: منها أنها في العشر الأواخر مطلقة، ومنها أنها في وتر العشر الأواخر من رمضان، ومنها أنها في ليلة 27 رمضان ومنها أنها في ليلة أربع وعشرين، وغير هذا من الروايات، بل منها روايات في أول الشهر وفي ليلة 17 التي توافق غروة بدر.. ولعل مصلحة المسلم في الاختفاء، حتى تستمر عبادته وصلاته وقيامه طوال الشهر، ليكثر الجزاء، وحتماً سيدركها وزيادة الخير خير وما عند الله خير وأبقى، وفضله سبحانه على عباده جزيل.
أخلاق العلماء
ذكر علي بن هذيل في كتابه: مقالات الأدباء، ومناظرات النّجباء، أن الإمام أبا حنيفة، كان له جار كيّال، وكان لا ينام إلاّ سكران، ولا يصبح إلاّ مخموراً، وكان أبو حنيفة، يقوم اللّيل يصلّي ويتعبّد ربه، فكان الكيّال إذا غلب عليه النّبيذ، ينشد قول الشاعر:
أضاعوني وأيّ فتىً أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر |
فافتقد أبو حنيفة صوته، ليلة وثانية، فلم يسمعه، فقال لجاريته: جارنا قد انقطع عنّا غناؤه، وفُقدِتْ حركته. فقالت: أخذه العسس، بأمر من الأمير: عيسى بن موسى، منذ ذلك اليوم فألقوه في السّجن، ولا يزال فيه.
فلما أصبح وضع عمامته على رأسه، واتّجه إلى باب الأمير عيسى بن موسى، ولما رُفع مَجلِسُه دخل أبو حنيفة، فأقبل عليه عيسى بن موسى بوجهه وقال له: أمرٌ ما عدا بك الينا يا أبا حنيفة؟ قال: نعم، جار لي كيّال، أخذه صاحب العسس منذ ثلاث ليالٍ، وقذفوه في السجن. فأمر عيسى أن يخرج، كل من أخذه العسس إكراماً لصاحب أبي حنيفة وجاره.. فخرج الكيّال مع أبي حنيفة، ولما صار ببابه، التفت فإذا بالكيال يتفوه، قال أبو حنيفة: يا فتى أضعناك؟. فقال: لا.. بل حفظت وأكرمت.
- وفي وصية بعض الحكماء: استشعروا السلامة للناس، وألبسو لهم اللّين، وألقوهم بالبشاشة، وعاشروهم بالمودّة، وتفضّلوا عليهم بحسن الاستماع، وإن كان ما يأتون به نزراً، فإن لكل امرئ عند نفسه قدراً، وفرّجوا عقولكم بأدب كل زمان. وأجروا مع أهله على مناهجهم، تقلّ مساوئكم، وتسلم لكم أعراضكم، وضعوا عنكم مؤونة الخلاف، واللّجاجة في المنازعة، فربّما ورّثت الشحناء، ونقضت مبرم المودة والإخاء.
ص (113-114)
|