لسورة الأنفال مكانة عظيمة في تاريخ الإسلام والمسلمين، فهي السورة التي سجلت أحداث غزوة بدر وملابساتها وبثت الاطمئنان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرته بالنصر بعدما خشي من قلة عدد رجاله أمام عدد رجال كفار قريش، فكان ول انتصار في تاريخ الإسلام وكانت معركة فاصلة بين الحق والباطل.
ولهذه السورة أيضاً مكانة خاصة في نفسي وذكريات - إذا صح التعبير- المكانة إنني أعود إلى هذه السورة أقرأها بتأمل ووعي كلما مررت بأزمة شخصية عدت إليها أستعيد قراءتها أكثر من مرة فأجد فيها المستراح كما أعود إليها كلما ساءت أحوال هذه الأمة المسلمة وارتكست.. كلما استخزت هذه الأمة أمام أعدائها وتراجعت خوفاً من العدو الأكثر عدداً وقوة.
أما جانب الذكريات التي أحملها لهذه السورة العظيمة فتعود إلى أيام الدراسة بالولايات المتحدة الأمريكية. وترتبط بالصديق المهندس د. حسن عبدالفتاح قارئ الأستاذ المساعد بجامعة الملك سعود حالياً، كان يعطي دروساً في التفسير بالمركز الإسلامي بمدينة يوجين ولاية أريجون، وكنا ثلة من الشباب الطموح، عقولنا متفتحة للعلم، وقلوبنا تحلم بالعودة لخدمة أوطاننا، كانت تجمعنا الصلوات الخمس في المسجد وزيارات الاخوة والمحبة والمودة فيما بيننا، وكان حسن - أثابه الله - يعظنا في أنفسنا ويحذرنا من الوقوع في المعاصي والفتن في مجتمع مفتوح أخطر ما فيه فتنة النساء، ولا يزال صوته الشجي يرن في أذني - رغم مضي حوالي عشرين عاماً - وهو يتلو قوله تعالى من سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ، وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
وضمن سلسلة دروس في التفسير والغزوات رسم لنا حسن - وهو مهندس ومن أهل المدينة المنورة - خريطة موقعة بدر وكيفية حدوث المعركة وحركة المسلمين وكفار قريش لدرجة أننا عشنا معهم وعشناها شعورياً من آيات سورة الأنفال التي ارتبطت كل آية منها بالحدث الذي نزلت بسببه.
وأدركت وقتها أن لأخي د. حسن قارئ موهبة العرض والتبسيط والتفهيم من خلال الكلمة والرسم وهذا ما جعله الآن مهندساً ناجحاً وأستاذاً جامعياً ناجحاً.
واليوم في هذا الشهر الكريم يخامرني هذا الخاطر: في السابع عشر من رمضان كل عام يستذكر المسلمون موقعة بدر، ولكن مرت عليهم عشرات السنون ولم يستفد المسلمون المحدثون من دروس غزوة بدر ليحققوا انتصاراً على عدوهم.
سورة الأنفال تحدد صفة المؤمنين الذين خاضوا غزوة بدر {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
سورة الأنفال تحدد الهدف من المعركة {وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.
النصر من عند الله ولا اعتبار للقوة الغاشمة أمام الحق الثابت، فقد انزل الله ملائكة تقاتل مع المسلمين {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ}.
وكشف الله سبحانه وتعالى في هذه السورة عن ما يدور في قلوب المنافقين وضعاف النفوس {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ} ووجه نبيه صلى الله عليه وسلم بأسلوب التعامل مع الخونة {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}.
وتوضح الآيتان 60، 61 من سورة الأنفال موقف الإسلام من الحرب والسلام، وهي أن استعداد المسلم بالقوة لا للاعتداء على الآخرين وإنما للدفاع عن الحق وحماية السلام {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ، وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وهذا معناه أن السلام هو الخيار الأول والأفضل للمسلم ولكن يجب عليه امتلاك القوة الكافية لحماية هذا السلام من أن يُعتدى عليه، وقد اختار المسلمون اليوم السلام بالفعل ولكنهم لا يمتلكون القوة الكافية لحمايته فالعدو يتخطفهم وينقض عليهم في كل مكان ووقتما شاء يمارس عليهم الإرهاب ثم يخلع عليهم صفة ما يفعله بهم، وهي شبيهة بالحال التي وصفها الله سبحانه في سورة الأنفال قبل النصر {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
المسلمون اليوم يعيشون حال النصف الأول من هذه الآية، وهم يتضرعون في كل بقاع الأرض إلى الله طوال هذا الشهر الفضيل أن يوفقهم ويبث فيهم عزيمة من عنده تعينهم على الوصول للنصف الثاني من هذه الآية. وما ذلك على الله بعزيز.
شكر
الشكر والتقدير لكل الاخوة والأخوات الذين بعثوا برسائل على البريد الإلكتروني بخصوص مقالي عن (طاش ما طاش).
|