(1)
** تضاءلت الثقافة التأصيلية المعنية بقراءة (الظاهرة) لا تداعياتها.
والبحث عن الحقيقة وليس إفرازاتها.. وهو سلوك جمعي لم يعد محصوراً في إطار عُمرْي أو اجتماعي أو تعليمي محدد..!!
** ونقفُ بالمكتبات باحثين عن تآليفَ ذات منهجية علمية، فتطالعنا (الروايات) محتلة الصدارة، ومؤكدة أن العالم كله: شرقه وغربه - ولسنا بدعاً فيه- يضع لها المكان الأول ولغيرها المحلّ الثاني..!
** لا تثريب على من كتب، ومن قرأ، غير أن التأمل في السلوك الثقافي الجديد يؤكد أن التبعيّة ليست الاستلاب وحده.. ولكنها تأطير (النموذج - الشخص).. و(الشخص - الحراك) حيثُ بلغا بنا حداً أصبح فيه كلُّ كتابنا وكاتباتنا شخوصاً نموذجية لحراكٍ روائي عجيب..!
(2)
** لهم عذرهم فقد استطاعت الرواية أن تقول مالم يقله المقال، ومالم تفصله القصيدة، ومالا يباشره الفكر، وأضحت الممارسات المختفية خلف الأبواب المغلقة، وداخل العقول المنطلقة واجهةً يتصدى (الروائيون) لطرحها دون خوف أو تردد أو حياء..!
** رواية اليوم كما مسلسلات الأمس.. رجل وامرأة ونزوة وعلاقة وتنظيم وثورة وتحدٍ لقيود الفئة المسيطرة، لو عُبّر عنها بكتابةٍ بنمطيةٍ لاقتيد أصحابُها إلى المحاكم..!
** نجحت الروايةُ في تخطي (الرّقيب القضائي).. وإن فشلتْ كثيراً في تخطي (الرقيب الإعلامي) بل لعلها سعت إلى استفزازه ليمنعها فيكون ذلك تسويقاً لها..!
**أصبح الروائيُّون أذكى حين استطاعوا اختراق (التابو) المجتمعي -بكل أبعاده- فالشخوص تخيلية، والأحداث افتراضية، وحتى حين ترتبط بمكان مألوف وزمان معروف فإن أبطالها أسماءٌ وهمية ينفذُ منها الكاتب حين تحاصره الأسئلة..!
(3)
** ليكن بعض هؤلاء ذا بضاعة مزجاة في فن السرد، وليقلْ من شاء عنهم إنهم لا يفهمون لغة الرواية ولا معنى الحكاية، ولكنهم استطاعوا أن يخترقوا الأسوار، ويتقدموا الصفوف... فتكون لهم (الريادة) رغم اصطفاف الرواد..!
** الحديثُ هنا لا يمسّ الصورة الأدبية المجردة، فلتلك مكانها، ولكنه ينطلق إلى أعماق هذا (التغير) الذي توارت بسببه مظاهر البحث العلمي، والنقد الاجتماعي، والمقالة المنهجية، والإبداع المجرد، وظهرت أجيال تقتات الفتات.. وترعى من الأدنى، فلا تضني وقتاً، ولا تكدُّ ذهناً، فقراءة الرواية لا تحتاجُ إلى أكثر من استرخاء قيلولة أو عتمة وتجد نفسك قد أنهيت رواية تلو أخرى ممتعاً غرائزك الوظيفية (عقلاً وجسداً).. فقد كفاك أصحابُها عناءَ التفكير الذي يتجاوز الشكل والانفعال والتخدير..!
(4)
** في مقولته المتداولة كان (ابن عطاء السكندري) يرى (الكون ظلمة وإنما أنارهُ ظهور الحقّ فيه)، وهو -هنا- لا يُمارس طقوسيّة افتراضية أو حتى تحليلية.. بل يقّرر ما بتنا نراه اليوم عياناً عقب توالي الهزائم الحضارية والنفسية والاقتصادية والسياسية التي لم تمر بها الأمة في تاريخها (الجاهلي) و(الإسلامي)، فأُغمد السيف، وسقط القلم، وتلاشى الحلم..!
** في هذا الوسط المخيف تنبتُ (الروايةُ) لنقرأ حكايات الكأس والمخدع.. والصدر والجذع.. فيمتزج الماء بالدمع، والصوت بالرجع، والانتشاء بالقمع..!
** نقرأُ الرواية فننفصل عن عالمنا المحبط، ونرى أنفسنا (غيفارا) داخل حركة الجماهير، و(الزير) مع صرير السرير، و(حي بن يقظان) في عالم الوهم والتطهير..!
** هل تجيء الرواية لتمثِّل هزيمة.. أم لتقدِّم منفذاً..؟ وهل خدع الروائيُّ الرقيب أم أملى الرقيب للروائي..؟ ومن استفاد من مَنْ..؟
(5)
** كان المفكر العراقي الراحل (هادي العلوي 1932-1998م) معجباً (بأبي العلاء) وكثيراً ما يستشهد بقصته مع (أحمد بن مرداس حاكم حلب) الذي شاء تأديب أهالي (المعرة) لعدم سدادهم (الإتاوات).. وحين أقبل جيشه ركب أبو العلاء حماراً وقاد أهالي (معرَّة النعمان) مما اضطر الحاكم إلى النزول عن حصانه والوقوف أمام حكيمنا الأعمى مستجيباً لطلبه أن يدع ناسه وشأنهم..!
** هكذا يختصر (رهين المحابس) دور المثقف، ويجلوه (العلوي) حين رآه قادراً بسلطته العقلية - المعنوية - الضمنية أن يصدّ زحف جيش متسلط..!
** هل يستطيع ذلك (روائيٌ) شجاع تجاوز كل المحظورات ودخل إلى غرف منامنا، وربما أخفينا أعماله عن القُصّر من أبنائنا، أو همسنا بحكايته للخُلَّص فقط من أصفيائنا..؟
** هل تجدون إجابة..؟!
(6)
** وسط السقوط المدّوي للإنسان والمكان والزمان العربيّ يُحسُّ من بقي لديه حس أن الترف الثقافي الذي نعيشُه اليوم جزءٌ من هذا السقوط، في حين كان مفكرو الأمة ومبدعوها منذ مطلع القرن حتى قرب انصرافه مشغولين بقراءة الواقع قراءةً واعيةً حيناً ومضطربة أحياناً ليبقى المستقبلُ هاجساً يحكم كُلَّ التوجهات العروبيّة والإسلاميّة.. المتحررة والمتطرفة..!
** وحين ظهر إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي.. وهما أبرز مثلين على الرواية - الترفيّه.. وجدا من نأوأهما لا من منطلقٍ ديني فحسب بل من منطلقٍ قومي كذلك.. ورحم الله أيامهما فما كان سيئاً لديهما أصبح حسناتٍ لدى خلفائهما..!
** وداخل الكَرْب والحّرْب يشعر القارئُ العربيّ أنه محاصرٌ بالوردة والمخّدة تقودُه ليختار شكله (الشهرياري) وحقيقته (الفياغراويّة)..!
** هكذا يصنعُ العجزُ بالعاجز ما لا تعالجه المعجزة، ليغفو النائم مع بضعة أسئلة..!
(7)
** هل دمُ العربي - المسلم المستباح في (فلسطين) و(العراق) و(أفغانستان) و(كشمير).. وهل كرامة العربي المسلم المهدرة من المحيط إلى المحيط.. وهل المستقبل العربي الإسلامي القاتم ستكتبه (كلمات) ترتسمُ فيها ملامحُ (سدُوم) فتغري (بالمواقعة) لتحين (الواقعة) فيكون عاليها سافلها، ونرى الورد في اللهب، والبريق في الحريق، والحور في القبور..؟ أو على طريقة الجواهري (1900-1999م):
يا جلّق الشام إنا خلقةٌ عجبٌ
لم يدِر ما سرّها إلا الذي خلقا
إنا لنخنُقُ في الأضلاعُ غربتنا
وإن تنزّت على أحداقنا حُرَقا
** ليس لهذه الاستفهامات التائهة إجابات حاسمة فمع إفرازات ثقافة الهامش التي لم تتجاوز في أحسن حالاتها (الهم).. وتردت لتبلغ (الوهم)، وظهر من داخلها من (كَفَر) أو (كَفَّر).. يبقى الأمل في الجيل الذي لم يولد بعد:
نحن أصلُ الأشياءِ لا (فوردُ) باقٍ
فوقَ إيوانه ولا (رابينُ)
نحن عكاّ ونحن كرملُ حيفا
وجبال الجليل واللطرونُ
كلُّ ليمونةٍ ستُنبت طفلاً
ومحالٌ أن ينتهي الليمونُ
(نزار قباني)
* اليأسُ انتحار..!