يرى بعض المهتمين بشؤون وتاريخ المجتمعات أن أنواعاً من تجارب الحياة.. مهما كانت صغيرة في عيون البعض.. إلا أنها صورة نابضة بما تحكيه عن حياة ذلك المجتمع.. والذي هو جزء من كل.. من تاريخ الوطن.. يحسن بصاحبها أن يخرجها إلى النور قبل أن تدفن معه.. ولاسيما إذا كان صاحب هذه التجربة أو تلك.. معروفاً بأي دور أو إنجاز له في حقل من حقول العلم والمعرفة، أو الفكر والثقافة أو الشعر والأدب..
وأجدني ممن يرى هذا الرأي.. وكل تجربة تلقي.. ولو ضوءاً خافتاً على جزء من حياة الوطن في فترة من فتراته تعتبر من صميم تاريخ ونوع حياة أناسي ذلك التاريخ الزماني والمكاني.
وبمناسبة هذا الشهر المبارك (رمضان) أتذكر نتفاً من ذكريات قديمة.. أخنى على أكثرها الذي أخنى على لُبَد.. منها المؤنس.. ومنها الموحش.. إلا أنها بوجه عام صور ناطقة بجزء من حياة الناس في ذلك الزمان الذي لم يعشه شباب اليوم ولا يعرفون عنه إلا أقل القليل.
سألني بعضهم، قبل أيام: لماذا لا تكتب عن شيء من صور حياتكم في (رمضان) قبل نصف قرن أو يزيد..؟ فقلت لهم: إن الذاكرة قد تعبت.. وقد تخلَّتْ - قسراً بمرور الأيام والأعوام - عما كانت تضج به خزانتها المليئة يوماً من عمرها بذكريات، ووقائع وقصص، تنوء بها مئات الصفحات لو كتبت في حينها.. فيها ما يعجب ويضحك.. وفيها ما يؤسي ويبكي.. أما اليوم فلم يعد في هذه الذاكرة إلا صُبابات هنا وهناك.
ولعلي أذكر من هذه الصبابات الرمضانية أنني سنة من السنين صرت - بقدرة قادر - إمام مسجد أصلي بأهله (العشاء والتراويح والقيام).. عمري حينذاك بين (12-13) سنة، لكني ضابط للقرآن - نظراً لاغيباً - لماذا حدث هذا..؟ هل لقلة أئمة المساجد في حرمه..؟ كلا.. إذن لماذا يطلب صبي لإمامة مسجد للصلاة بالجماعة صلاة الليل التراويح والقيام..؟ السبب أنني كنت من عامي (العاشر) وأنا أقرأ على جماعة مسجد الجامع بتشجيع أو تكليف من شيخ حرمة الشيخ عثمان بن سليمان وابنه عبدالعزيز مدير مدرستنا وبرضى الوالد - رحمهم الله جميعاً - أقرأ على الجماعة بين العشاءين في كتب (رياض الصالحين، الترغيب والترهيب، وظائف شهر رمضان والتبصرة) إلخ مما شهرني بين أهل بلدتي.
وهذا السبب هو الذي جعل أهل (مسجد القُري) يطلبون من والدي أن يوافق على جعلي إماماً لمسجدهم في ليالي رمضان ذلك العام الذي لا أتذكر تاريخه لبعد العهد به، وقد أمرني والدي أن أستجيب لرغبتهم.. وأمر الوالد واجب التنفيذ.. وبخاصة أننا في صيف ذلك العام ككل صيف، لنا رحلة صيفية للسكنى في نخلنا الذي لا يفصله عن (القُري) إلا (المقبرة).. ويا لهول هذا الفاصل ووحشته، المقبرة بطبيعتها النفسية موحشة للكبار.. فما بالك بصبي.. يحتم عليه هذا الالتزام (الرمضاني) أن يجتازها ذهاباً وإياباً كل ليلة من ليالي الشهر..! وقد ذهب معي والدي إلى هذا المسجد مرتين أو ثلاثاً ثم تركني لأعتمد على الله ثم على نفسي.. وكان يذهب للصلاة في الديرة.. ويعقب إمام مسجد (السليمية) (محمد أبو علي بن الأمير) في صلاة التراويح أحياناً - رحمهما الله - (مسجد القُري) هذا يقع بين نخل (القُريّ) الذي يملكه سليمان وعبدالله وعبدالمحسن التركي، من جهة الشرق - ويقع شماله نخل (الفاضلية) وصاحبها إبراهيم بن عبدالكريم التركي، وغرباً عن المسجد يقع النخل المسمى (ققح).. ويملكه والد وعم الشيخ د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وقد بنى الدكتور على جانبه الغربي قصراً فخماً في مرآه من الخارج، ولا أدري هل هو يزوره حيناً بعد حين.. أم شغلته عنه رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة واسم هذا النخل غريب (قَقَحْ) وقد بحثت في بعض القواميس عن هذه الكلمة فلم أجدها.. لعل الدكتورعبدالله قد وجد المعنى فيخبرنا به. قلت فيما سبق يا لهول الفاصل بين سكني والمسجد الذي ألزمت بالصلاة بأهله.. ويا لهول المرور بالمقبرة ليلاً.. فالمقابر قديماً وحديثاً موحشة لمن يدخلها في ظلام الليل.. وطريقي إلى المسجد واحد لا سواه هو هذه المقبرة.. وهي التي أخذت همي في هذا التكليف، فالصلاة بالجماعة طبيعية وسرت فيها كما يرام حتى نهاية الشهر، والحمد لله، وتنحصر المشكلة في استيحاشي من المرور بين القبور، ومن ظلمة بيت المقبرة (الحجرة) التي توضع فيها اللبنات. ويزيد الطين بلة الحكايات المرعبة التي يتداولها الناس بينهم حول المقبرة، ومنها الحكاية التالية:
راهن بعض الرجال رجلاً جسوراً يدعي أنه لا يستوحش من شيء حتى من دخول بيت المقبرة في الليل.. وجعلوا له جعلاً أي قالوا له (لك علينا.. كذا) إن دخلتها في الليل.. ووضعوا علامة لمصداقيته وأحكموا (المقلب) بحيث ربطوا في الحجرة (خروفاً) ليكون العلامة.. والرجل المراهن لم يعرف هذا.. قالوا له إذا دخلت الحجرة قل (إرّتَحْ) وهذه كلمة ينادى بها على الغنم (الضأن)!
دخل الرجل بيت المقبرة ونطق بما أمر به (فثغى الخروف) المربوط في وجهه.. وهو لم يعلم به ولم يره.. فانخلع قلبه رعباً.. وفر هارباً وقطع الخروف رباطه وانطلق يركض خلف الرجل الذي ناداه.. وسقط الرجل المراهن في نهاية المطاف مغمى عليه، ولم يذق طعم العافية بعد.
هذا المقلب المرعب، وإن كان المراهنون قد أعطوه أو أعطوا أهله الجُعْلَ المتفق عليه.
هذا نموذج من حكايات تلك المقبرة.. التي كنت أرتجف أحياناً عندما أذكرها وأنا أسلك هذا الطريق ذهاباً وإياباً كل ليلة.
تحملت هذه المشقة حتى نهاية رمضان.. وشكروني ودعوا لي دعاء صالحاً أرجو أن يكون الله قد استجاب له.
وبعد العيد أتى إمام المسجد عبدالله التركي إلى نخلنا يحمل فوق رأسه زنبيلاً كبيراً مليئا بالبر هدية للإمام الصغير، أوهي لفتة حضارية حتى و إن لم نكن في حاجة إليها، لكوننا أهل نخل وزراعة ولكنهم أرادوا التعبير عن امتنانهم للصلاة بهم والقراءة عليهم ليالي رمضان - رحمهم الله -.
هذه هي (الإمامة) الأولى في حياتي..
أما الإمامة الثانية فكانت بعد سنوات من ذلك التاريخ حينما ذهبت إلى الرياض لطلب العلم على سماحة شيخنا الجليل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - وكان من عاداته أنه يمد مساجد الأطراف في رمضان بمن يصلي بهم التراويح والقيام من طلبة العلم عليه، ويشترك في هذه الحركة العميان الذين تطلبهم الأميرات مدة الشهر.. ويحصلون في النهاية على شرهة وكسوة العيد وما إلى ذلك.
ولا أدري عن الأئمة الرجال.. إلا أنه كان من حظي (المعنوي) أن عينني الشيخ محمد إماماً لواحد من كبار أسرته.. هو عبدالرحمن بن عبدالعزيز آل الشيخ صاحب نخل (صياح) المجاور لسوق عتيقة حالياً، ويعرف بلقب (حنيفة) أو أبو حنيفة.
وكان هو وابناه (عبدالله ومحمد) في غاية اللطف والكرم النفسي معي حتى إن الأب لا يفطر مع أسرته ولا يتعشى معهم وإنما هو وأنا معاً على الفطور والعشاء وكان غالب عشاه وإياي (غضارة قرصان) متبلة بالخضار المنوع ونتف اللحم ثم القهوة والشاهي، ثم الصلاة..
لا أذكر شيئاً كثيراً عن تلك (الإمامة) سوى ما ذكرته آنفاً من حرصهم على إكرامي وترغيبي فيهم.. أو ما كان من شدة الحر في ذلك العام خلال رمضان حيث كنت أقضي ساعات الذروة الحرارية في بركة النخل.. للتبرد والتغلب على شدة الظمأ اللاهب، وكانت صلاتنا العشاء والتراويح في سطح المسجد إذ ليس في الداخل وسائل تبريد فلا مكيفات ولا حتى المراوح، ويحضر صلاة الليل معنا جميع أهل النخيل المجاورة، وقد أكملت معهم رمضان في أجمل علاقة جمعتني بهذه الأسرة الفاضلة.
ومن ليلة العيد تعود الطيور إلى وكناتها، منها الخماص ومنها البطان.. رحم الله الراحلين، وأمد الأحياء بوافر الصحة وصالح الأعمال.
|