ما مِنْ شهر يأنس إليه المسلمون ويلقى من الترحيب والاستبشار بمقدمه مثل شهر رمضان، فهو شهر يتسارع فيه الناس للتزاور فيما بينهم بعد أن يستقبلوا مقدمه ومطلعه بالتهنئة والسرور، فالمسلم يدرك أن هذا الشهر الكريم تتضاعف فيه الحسنات والأجور؛ فأوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
وأيام رمضان ولياليه تشهد تسابقا في فعل الخيرات وحرصا على التزاور بين الناس والسؤال عن بعضهم البعض وكأنَّ بركة هذا الشهر تنعكس على سلوك الصائمين تواصلا وتراحما وتعاطفا أكثر من أي شهر على مدى العام. فما أحسنه من شهر يجمع المسلمين في تكاتف وتعاون وتسابق على طاعة الخالق عز وجل.
فهل يستطيع المسلم أن يدرك من هذا الشهر درسا في التراحم والتكاتف ويتعلم منه ما يساعده على تأكيد عُرى المودة بين بني مجتمعه؟ وهل يتمكن المسلم بعد أن يجتاز صيام هذا الشهر الكريم أن ينجح في توطيد صلته وتوثيقها مع أبناء مجتمعه وخاصة مع بني رحمه الذين هم في حاجة إليه؟
إنَّ هذا ما حرص عليه النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - حين دعانا إلى صلة الأرحام لأنها من أعظم القربات إلى الله وأحبها إليه سبحانه، فقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) رواه البخاري.
وهكذا فإن صلة الرحم ترتبط ارتباطا وثيقا بالإيمان بالله، كما ترتبط بالإيمان باليوم الآخر؛ لأن من يخشى ربه ويسعى نحو طاعته طمعاً في رضوانه ومرضاته وثوابه فإنه يجعل اليوم الآخر بين عينيه؛ فيعمل لما بعد الموت، وهنا تكون صلة الرحم مقياساً معبراً ودليلاً صادقاً على مدى حرص المسلم على العمل من أجل آخرته، مستفيداً في ذلك بصلة الأرحام التي حثَّ عليها ديننا الحنيف ورغبنا فيها؛ لما لها من آثار تعود بالفائدة على المجتمع في الدنيا حتى تتماسك الأسر المسلمة ويسود بينها التكافل الاجتماعي الذي هو أساس من أسس الحياة الاجتماعية في الإسلام.
وهكذا فإن صلة الرحم لها شأنها في الإسلام فهو يستهدف منها مصلحة البشرية ليسودها مناخ من التعاون والتراحم فبدأ بالحث على صلة الأقرب فالأقرب لتتماسك المجتمعات الإنسانية بدءاً من الأسرة الواحدة التي هي نواة المجتمع، ولذلك فقد بلغ من حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على صلة الرحم أن جعلها سبباً في بسط الرزق وإطالة العمر، فقد رُوي عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أحبَّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) رواه البخاري. كما روي عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من سرَّه أن يُمدُّ له في عمره ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليصل رحمه) رواه البزار والحاكم.
ومَنْ مِنَّا لا يحرص على كل هذه الفوائد التي يجنيها متى ما وصل رحمه؟ ومنْ مِنَّا لا يخشى أن يدخل في نطاق من قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) رواه البخاري.
ولكن قد يبتلى الفرد بذوي رحم ممن تجب عليه صلتهم ولكنهم قد يكونون ممن لا يحسنون مقابلة المعروف بالمعروف أو مقابلة التحية بالتحية - إنْ لم يكن بأحسن منها - بل يسيئون إلى من يحسن إليهم من أقاربهم، مما يدفع إلى القطيعة والشحناء بين الأقارب ناسين أو متناسين ما روي عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الرحم معلَّقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله) رواه مسلم.
إن أمثال هؤلاء لا ينبغي أن يكونوا بجهلهم سبباً في قطع الأرحام؛ فقد وضع الإسلام حداً حتى لا يجاريهم أحد في جهلهم وسفههم فتفسد العلاقات الاجتماعية بين ذوي الأرحام، وتسود البغضاء في المجتمع؛ ولذلك فقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله إنَّ لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك) رواه مسلم.
وهكذا فقد رسم الإسلام الطريق إلى تكاتف المجتمع فجعل صلة الرحم أساساً في ذلك مهما كانت الصعوبات التي تعترض واصلها ومهما كانت الأشواك التي توضع في طريقه من قبل بني رحمه؛ لأن سلامة المجتمع من الأحقاد، وقيام بنيانه على التعاون والتراحم والتكاتف يعلو فوق الخلافات ويسمو فوق أحقاد النفوس ليظل للمجتمع المسلم قوته ومنعته في هذه الحياة.
فما أحرانا أن نحرص على صلة أرحامنا لننال رضا الله سبحانه ولنحيا حياة سعيدة آمنة في الدنيا بعيداً عن المنغصات التي قد تحيط بنا إذا تركنا حبال الوشائج تنقطع، وما أحرانا أن نجعل هذا الشهر الكريم فرصة لصلة الأرحام والصفح عن المسيء منهم، امتثالاً لقوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (22) سورة النور. والله الموفق.
|