يردد الأدباء والنقاد مقولة إن هذا العصر كثر فيه الشعراء وقلَّ الشعر.. وهذه قد تصدق على الكتَّاب في عصر طوفان الكَتَبة وقلة الكتابة.
فعلاً.. هذه حقيقة لا مهرب منها.. هناك زحمة كتَّاب.. طوابير على أبواب الصحف لكن الفن والإبداع الكتابي نادر وقليل كلنا نجهِّز ورق (البيفور) ونستدني الدواة ونتحسس القلم ونتلمس ما فيه من حبر.. كلنا مستعدون للرحلة.. مراكبنا أحضرت ومجادفنا أعدت وأشرعتنا شدت.. آذاننا منصتة لسماع صافرة الانطلاق لكن بعد الانطلاقة وسماع الصافرة من يحسن منّّا التجديف والإبحار، من يجيد ركوب الأمواج ومصارعتها حتى يصل الضفة الأخرى ويغرز مرساته في شاطئ (الفن الكتابي).
في تصوري أن نهاية المضمار وآخر المشوار لن يحط عندها إلا القليل.. الذين استعدوا للرحلة جيداً وعرفوا كيف يمسكون القلم وكيف يرسمون الحرف ويداعبون الكلمات.. هؤلاء هم الذين يحطون على أرض الفن وعالم الإبداع..
وذلك لأنهم (بنوا فأحسنوا البُنى) عرفوا الطريق فحثُّوا الخطى فيه لم يسرعوا ولم يتباطؤوا، بل خطوا خطوات متوازنة واثقة حتى صعدوا إلى القمة بسلم الإبداع.. كانت بدايتهم القراءة لهدف الفهم والوعي والتوسع في المعرفة ولم تكن تخطر ببالهم الكتابة؛ لأنها في نظرهم ثانوية أي مرحلة تالية بعد القراءة وهم لا يكرهون الكتابة أو يرفضونها ولكنهم يدركون أن الانطلاقة لم تحن بعد.. لأنهم منغمسون في مرحلة التكوين وتأسيس المخزون القرائي والمعرفي الذي يمدهم بالمعاني والأفكار ويزيدهم من الكلمات والألفاظ في لحظة التفجّر الكتابي.
هناك مجموعة من (المتثاقفين) يتصوّر أن الإبداع في الكتابة أن تغرب في الألفاظ وتعقِّد في المعاني وتعتسف كلمات ومصطلحات (متحضِّرة) جديدة لتتعالى وتتثاقف بها على المتلقي.. أن تأتي بطلاسم ورموز غير واضحة وغير مفهومة.. أن تخبط في الأسلوب خبط عشواء وتعبث في الكلمات وتشتت ذهن المتلقي.. أن (تدسَّ) في كلامك أشياء (برَّاقة) قادمة من جهة الغرب.. أن تسوق بين ثنايا كلماتك نظرية غربية عفا عليها الزمن وماتت وفشلت، أو كاتباً غربياً أو نقلاً عن مؤسسة أو قناة غربية.. إلخ المهم أن توهم المتلقي بأنك مثقَّف وتحمل بين أبطيك كتاباً مؤلِّفه غربي.. أبداً الإبداع ليس هكذا..
الإبداع الكتابي لا يتأتى من عمل صحفي أو من قراءة رواية أو قصة أو من حصيلة كليمات تصفصف بعسر على متن السطور. الإبداع الكتابي هو حصيلة مشوار بعيد المدى تفتقت فيه الموهبة عن مشروع قرائي واعِ هادف ثرّ.. الإبداع الكتابي لا أن تنزلق في مشروع قرائي خاطئ تحصد منه فكراً مظلماً فاسداً ثم تجعل قلمك أداة لترويج هذا الظلام وسوطاً تسوم به أمتك تسخر به من بيئتك ومجتمعك.. ومعولاً تهدم به كل ما يقابلك من نتاج أمتك.. الإبداع الكتابي..أن تسلك سراطاً مستقيماً وتكافح لهدف مضيء ناصع.. أن تنشر الخير وأن تجعل قلمك أداة لنبذ الرذيلة وجلب الفضيلة.
|