هذه الجملة تتردد من حين لآخر ، وهي من دون شك كلمة حق حثت عليها الأديان والمواثيق المعاصرة ، إلا أن بعض الدول الكبرى تستخدمها أحياناً لمصالح خاصة بها ، وبالنسبة لهذا المجال تعتبر الأسرة هي الخلية الأولى التي نشأت في العصور القديمة ، وبرز حق الملكية في مصر القديمة وإيطاليا والإغريق والجرمن ، وكانت خاصة بالأسرة أو القبيلة .. وبعد أن نشأت المدن ظهرت معالم السلطة العامة ، وفي العصور الوسطى ظهرت بعض الأفكار التي تدعو إلى تحرير الفرد من القيود المفروضة عليه ، أما الأجنبي فلم يكن يعترف له بالشخصية القانونية وكان يعتبر رقيقا لا يرث ولا يورث ، وكانت أمواله عرضة للحجز عليها حيث كان الرق موجودا بالمدنيات السابقة ، حيث وضعت له القوانين في العصرين الإغريقي والروماني إلى أن تمت محاربة الرق في القرن الثامن عشر ، حيث تم تحريمه في الولايات المتحدة سنة 1794م وفي المستعمرات الفرنسية سنة 1848م ، إلى أن ألغيت تجارة الرق سنة 1885م.
وبالنسبة للحرية الشخصية لم يكن للفرد كيان مستقل عن الجماعة ، فالقانون الدولي المطبق في العصور الوسطى يعتبر أن جميع أفراد شعب الدولة مسؤولون بالتضامن عن أي عمل ضار يقع من أحد الأفراد ، ثم حصل تطور في ذلك بما يعرف بنظام خطابات الثأر في إيطاليا واليونان ، وذلك عند إنكار العدالة من قبل القاضي ، إذ على الفرد أن يرجع إلى مدينته التي تقوم بمنحه خطاب الثأر الذي يخوله حق القبض على المدين والتحفظ على أمواله وتسليمه إلى سلطات مدينته التي تودعه السجن حتى حصول الدائن على حقه.
ويعتبر من أبرز المبادرات القديمة لحماية حقوق الإنسان وثيقة العهد الكبير التي قدمها المهاجرون الإنجليز للملك جون ، التي تهدف إلى حماية الحرية الشخصية من الأحكام غير العادلة ومن الحبس الاحتياطي المخالف للقانون ، وتلت هذه الوثيقة سنة 1629م وثيقة حق التظلم ، ثم وثيقة إعلان الحقوق سنة 1689م ثم وثيقة إعلان الاستقلال في أمريكا الشمالية سنة 1776م التي جاء فيها (والحقيقة الواضحة أن الناس يولدون متساوين ، وان الخالق منحهم حقوقاً لا يمكن سلبها منهم كحق الحياة والحرية والبحث عن السعادة ، وان واجب الحكومات حماية هذه الحقوق وضمانها) ، وكذلك ينضوي في هذا الإطار وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي التي صدرت في فرنسا والاتفاقيات الدولية في هذا الصدد ، ومن ذلك اتفاقية لاهاي سنة 1899م التي حددت حقوق الإنسان أثناء الحروب ، كما ظهر ما يعرف بمبدأ التدخل ويعني قيام إحدى الدول بالتدخل في شؤون دولة أخرى لغرض حماية الإنسانية ، كما حدث سنة 1900م عندما قامت الولايات المتحدة بالتدخل لدى الدولة العثمانية لوقف الحرب ضد الأرمن.
كما أن عهد الاستعمار وقيام الدول المستعمرة بالاستيلاء على مقدرات الدول المستعمرة قد أدى إلى تدخل المجتمع الدولي لتنظيم إدارة المستعمرات ، ومن ذلك تحريم الرق والاتجار به وتقييد الاتجار بالأسلحة النارية والخمور لحماية الإنسان من اندلاع الحروب الداخلية ، وبعد ظهور فكرة التنظيم الدولي صدر عهد عصبة الأمم سنة 1919م الذي تضمن نصوصا خاصة بحماية حقوق الإنسان وبالذات في المستعمرات ، كما أن لمنظمة العمل الدولية دورا في هذه الحماية عندما وضعت قواعد سامية للتعامل ، ومن ذلك ما ورد بالمادة (24) من دستور المنظمة حول حق المنظمات المهنية لأصحاب الأعمال أو العمال بتقديم مطالباتهم إلى مكتب العمل الدولي عند عدم قيام أي من الدول الأعضاء بتطبيق أحكام إحدى الاتفاقيات التي صادقت عليها ، كما أن ميثاق الأمم المتحدة الصادر سنة 1942م قد تضمن نصوصا تعزز احترام حقوق الإنسان حسب ما ورد في الفقرة الثالثة من المادة الأولى من الميثاق ، كما ورد بالمادة الثالثة عشرة منه (إنما التعاون الدولي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية والإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة بدون تمييز بينهم في الجنس أو اللغة أو الدين بدون تمييز بين الرجال والنساء) ، أما في ظل نظام الوصاية الذي نصت عليه المادة (77) من ميثاق الأمم المتحدة ، فإن حقوق الإنسان مكفولة باعتبار أن تطبيق هذا النظام يتم بالاتفاق بين الأمم المتحدة والدول المعنية ، ويوجد بالأمم المتحدة العديد من الأجهزة والهيئات المعنية بحقوق الإنسان ومنها لجنة حقوق الإنسان التي أنشئت سنة 1946م التي من مهامها حماية الحريات والأقليات ومنع التمييز.
كما أن حماية حقوق الإنسان في العصر الحاضر وردت في عدد من الإعلانات والاتفاقية الدولية وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948م ، الذي أورد العديد من الحقوق كالحق في الحياة الكريمة والشخصية القانونية والتقاضي وحرية العقيدة والعمل والمسكن والتعليم ، فالحق في الحياة مثلاً يشمل تجريم الإبادة الجماعية كقتل الأعضاء أو إلحاق أضرار جسمانية أو ذهنية أو فرض ظروف معيشية تؤدي إلى إبادة جماعية أو جزئية أو منع التناسل داخل فئة معينة ، كما أن من حقوق الإنسان حمايته من الإرهاب والاحتجاز والتعذيب ، والتمييز العنصري حيث أصدرت الأمم المتحدة سنة 1965م إعلانا بالقضاء عليه ، ومن حقوق الإنسان أيضاً حماية حقوق المرأة والطفل والمسنين.
وبعد فإنه إذا كانت الجهود والمحاولات التي بذلت لحماية حقوق الإنسان في العصر الحاضر قد بدأت في القرن السابع عشر الميلادي ، وتم إقرارها مع بداية القرن العشرين فإن الشريعة الإسلامية قد اهتمت بحقوق الإنسان منذ القرن السابع الميلادي أي منذ ما يزيد على (14) قرنا ، ففي الإسلام فإن الله عز وجل هو مصدر تقرير الحقوق والواجبات للبشرية جمعاء بالعدل والمساواة المطلقين { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } ، وقد حفظ الإسلام للإنسان كرامته ورفع من شأنه { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ، فالمساواة والعدالة والاخوة من المبادئ الراسخة في الشريعة الإسلامية ، التي تعتبر أساساً لحقوق الإنسان فالحق في الإسلام نقيض الباطل { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } وتقسيمات حقوق الإنسان إلى مدنية واجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية عرفت أيضاً في الشريعة الإسلامية قبل أن ترد في الأنظمة المعاصرة ، فحفظ النفس البشرية من مقاصد الشريعة { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } ، وفي السنة الشريفة (أن جارية قد رُضّ رأسها بين حجرين فسُئلت عمن فعل بها ذلك فأشارت إلى أحد اليهود ، فلما اعترف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرَضّ رأسه بين حجرين) ، وكذلك حق الإنسان في التنقل لمصلحة مباحة { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } ، وحق الإنسان في المسكن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، وحق تولي الوظائف العامة وحق تكوين الأسرة { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } ، وحق الضمان الاجتماعي { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ.. } ، وحق الرعاية الصحية بدليل أن المسلم أعفي من بعض العبادات أو خفف عليه منها بسبب المرض ، كالفطر في رمضان مع دفع الفدية والصلاة قاعداً أو مسترخياً ، وحق العمل { وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} ، وحق التملك (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه) ، وحق التعليم { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } ، وحقوق المرأة { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } ، وحرية العقيدة { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }.
ولحقوق الإنسان ضمانات في الشريعة الإسلامية ومنها رقابة القضاء ، فقد أوجب الإسلام إقامة العدالة بين الناس ومما يدل على ذلك أن يهودياً شكا علياً بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال عمر لعلي : (قم يا أبا الحسن فاجلس بجوار خصمك ، ففصل عمر بينهما).
ومن الضمانات ولاية المظالم التي تعني (قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة) ، ومما يدل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد) ، بعد أن قام خالد بن الوليد بالقتل في قبيلة خزيمة بعد إعلانهم الخضوع للمسلمين.
ومن الضمانات أيضاً ولاية الحسبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حدود أحكام الإسلام السمحة التي تحث على دعوة الناس للخير بالحكمة والموعظة الحسنة { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وليس بالشك أو بالعنف أو الغلو أو الإكراه.
ومما تقدم يتبين أن حقوق الإنسان قد حظيت باهتمام القوانين والمواثيق الدولية المعاصرة ، وقبل ذلك فإن الشريعة الإسلامية وهي منهج الحكم والحياة في بلادنا قد اهتمت بحقوق الإنسان ووضعت لها الضمانات القوية قبل أن يعرف ذلك في القوانين المعاصرة بمدة طويلة.
|