انتقلت قضية فلسطين من كتب التاريخ إلى حيث قلبي وسط ضجيج الحوقلة التي ترددت في منزلنا الذي تهتز أرجاؤه بصوت مذياع جدي في (البلكونة الأرضية المشمسة) ومذياع أبي في الصالة.
وكان كل منهما يستمع إلى محطة.. فلم يكن مؤشر مذياع جدي يتغيَّر عن إذاعة الرياض.. بينما كان مذياع أبي يتنقَّل كثيراً لكنه يحط في النهاية عند إذاعة لندن.
** لأول مرة في مطلع الثمانينات الميلادية.. أشعر بأن اهتماماتي اختلفت وتغيَّرت وانتقلت من إشعال معارك صغيرة مع المعلِّمات العربيات والمراقبات السعوديات اللاتي لا أكف عن مشاغبتهن ولا يكففن عن ملاحقتي وزميلاتي في ممرات المدرسة إثر هروب من حصة الجغرافيا أو حصة مدرس الدين الكفيف!
** كان خروج الفلسطينيين من لبنان بداية انتقال وتحوّل في اهتماماتي التي كنت أستمدها من اهتمامات إخوتي الشبان فأتابع كرة القدم وأشجِّع لاعبيها وأبكي لهزيمة فريقي المفضَّل.
** بكيت لبكاء الفلسطينيات وهن يمددن أيديهن باكيات للجنود الذين رحلوا.
وأحسست لأول مرة بالنضج تجاه قضايا الحياة.. وأحسست أنني كبرت باكراً وغادرت سنيَّ المراهقة الأولى على عجل..
كتبت نصاً أسترقت مطلعه..
وقدمته هدية صباحية لأول مرة بكل أدب وتهذيب لمعلِّمة العربي الفلسطينية وكانت القصيدة (العصماء) بعنوان (صوت الخرير).
وتحققت المفاجأة المذهلة لزميلات درب الشغب البريء في المدرسة.. حين وجدنني أخرج من بين كل الصفوف لأقدِّم قصيدتي في الإذاعة المدرسية.
ولأقف لأول مرة بمحاذاة المديرة والمراقبات والمعلِّمات وأنا في موضع غير موضع التوبيخ!
** كتبت نصاً قصصياً وشجعتني معلمتي.. وتتالت القراءة والاهتمام فأحببت شعر محمود درويش وأقتنيت روايات غادة السمان وقرأت شجن الحنين والاغتراب واللوعة والبكاء عند كل شعراء العرب وأدبائهم.
وحين كنت أحدِّث زميلاتي عن حريق لاذع هو (فلسطين) فاجأتني واحدة: (إنهم يستحقون ما يجري لهم.. ألا ترين فتياتهم يرمين اليهود بالحجر وهن يرتدين البنطلونات)؟!!
وكانت خيبة أولى لاحقتها فيما بعد خيبات عظيمة، إذ غابت فلسطين واتهمت قضيتها ومن ناصرها بالقومية التي هي ضد الإسلامية.. وبزغت شمس قضية أفغانستان حتى حاصرتني فيما بعد زميلة أخرى وهي تريني أشلاء الأجساد الممزَّقة وتقول انظروا كي يقوى إيمانكم.. انظروا إلى شهداء الإسلام الحقيقيين!!
كنت أعود إلى منزلي لأقف في محاذاة (المغسلة) وأتقيأ كثيراً.. وأنام طويلاً..
غابت فلسطين.. وتلاشت خلف جبال عظيمة زرعت بالقوة في أعيننا.. وحين ذابت جبال الجليد.. وأفقنا على سواعد صغيرة تنتفض مجداً..
كانت العراق هي المعول الجديد ولتغرق شمس فلسطين في جبال جديدة.. تجعلها آخر الأخبار.. وأقدم الأحزان وأول الخيبات..
وتلف حولها دثارات الحروب المخططة ورائحة المكائد السياسية.. والصناعة الإعلامية الفاسدة!
** حين غادر عرفات (رام الله)
باتجاه باريس..
استيقظت قصيدة (صوت الخرير) من جديد..
خرج عرفات من أرض فلسطين.. لكن هل كان بها يوماً؟ هل أحسَّها وأحسَّته هل كانت إقامته في تونس تختلف كثيراً عن إقامته في رام الله؟
** حين عادت حمى الشعر الرديء الصادق تجتاحني.. كانت ضفائري قد غادرت وكانت الشقاوة المعبأة بها عيناي قد خفتت..
وبقي شجن حاضر لا يغيب هي فلسطين رغم كل الجبال التي تذوب أو لا تذوب!!
فاكس 012554637 |