كثيرا ما يطرح النقاد العرب سؤالا حول تصوير الرواية والقصة بعامة لمجتمع الجزيرة، فالناقد العربي يبتغي رؤية جذوره وجذور العالم العربي وحياته القروية والبدوية والصراع القبلي وانماط الحياة التي نبتت في الصحراء الطويلة الممتدة وما نبتت فيها من واحات زراعية وما صارع الزمن فيها من بلدان ومدن وقرى، وما مدى تفاعل الشرائح الاجتماعية فيما بينها. وتلك جبهات قاسية بعد أن باعد الله بين قراهم حين ظلم أهلها أنفسهم {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} والحقيقة التي لا مراء فيها أن القاص في بلادنا قد صور كثيراً من معالم الحياة ولا سيما الحياة المعاصرة والواقعية، لكن هناك أيضا الكثير من الصور الاجتماعية التي تتشكل في نص روائي وهي جديرة بها:
وقد تكاثفت صور جنوب البلاد في الرواية السعودية حينما برز عدد من الكتاب من الباحة وجازان ومنطقة عسير، وكان من أقدم القَصص الذي صور المدن الحجازية قصة (ثمن التضحية) لحامد منهودي، فصور شرائح من المجتمع المكي.
وظهر هناك قَصص يصور حائل وشمال نجد لكن غلبة العامي عليه افقدته تأثيره وعناية النقاد به كروايات عبدالرحمن السويداء والهذال.
وظهرت الرواية الواقعية الحديثة التي تصور بعض المدن ومنها قصص إبراهيم الناصر وكذلك قصة تركي الحمد (العدامة) لكنها لم تلج في بنية المجتمع وتحكي حركته الاجتماعية التي صحبت التطور المعاصر وكلها توحي بلمحات عن البيئة الاجتماعية حتى ظهرت رواية (نساء في مهب الريح) للكاتب الأديب عبدالرحمن أبو حيمد، وقد عرض الكاتب على روايته في مهدها وأشرت إلى بعض المقترحات واستعجلته طباعتها كي ترى النور وتملأ حيزا اجتماعيا يمتد لأكثر من خمسين سنة، فهو في مستهل الرواية استدرج الماضي وذكرياته لأنه صور تلك الحياة الريفية والقروية وتلك الصور تمثل تاريخا طويلا لم يطرأ عليه حراكا عهود طويلة لانغلاق المجتمع، وتماثل الحياة فيه، ولم يكن هناك حراك علمي أو امتزاج اجتماعي من الخارج أو استقبال فكر خارجي او استدعاء للفكر العربي والإسلامي وتجليته، وانما هي معاناة اجتماعية متوارثة، فالقرية أو البلدة والمزارع من حولها، والمراعي التي تحيط بها، ومعاناة الزراعة والحفر والفلاحة والاحتطاب وكر الأمراض ، وصراع الإنسا ن على ضروريات الحياة، كل هذا اختزلها الروائي أبو حيمد في تصوير حياة تلك المرأة الأرملة الشابة، فقد صور البيت الطيني، والأثاث المتواضع، والحاجة إلى الغذاء واللحوم والألبسة المتواضعة، وتواصل القرية وتعاونهم، ومحافظتهم على أعراضهم والتمسك بالعادات والتقاليد.
الرواية (نساء في مهب الريح) واقعية من منطلق فكرتها ومن تفاعلاتها النفسية ومن ولوجها في ابداع المؤلف، فهي نسيج من الواقعية الحياتية المعنوية والتفاعل مع المكان والانتقال مع الزمان.
وهي تعالج واقعية الشريحة الكبرى في الجزيرة فان الطبقية تتضاءل في العهود السابقة والعهود القريبة العهد.
فتماثل المأكولات وتوجد الألبسة وتماثل الأعمال وتكوينهم الاجتماعي في كل ذلك متقارب وان تفاوتت الشرائح الاجتماعية أو لنقل أفراد المجتمع في قدرات الثروة التي تتشابه أيضا في البيوت الطينية أو خيام الشعر والمزارع الصغيرة والاعتناء بالإبل والبقر والأغنام، وجل هذه الصور تتابعت بإشارات متعددة لتنقل لنا حياتهم البسيطة من أعمالهم الزراعية وبتجاورهم بدورهم ولقاءاتهم الاجتماعية وتصارعهم على مقومات الحياة وانشغالهم الدائم بأمورهم الضرورية وأحاديثهم حول مشاكلهم الاجتماعية التي تدور جلها حول النساء والأرض والمال ومعاناة الحياة الأسرية. وكل هذا يصوره الأب الفلاح الذي عاجله الموت لكن المؤلف خلد صورته التي تحكي واقعه وأكبر ناقل لتلك الصور المرأة.
الأم وهي أم آدم وشعيب، وهي المرأة الأرملة وهي التي أجبرت على أن تحتل مكانة الرجل في قوامة البيت فقامت بالدور كاملا، وتلك المرأة النجدية كما في الرواية مثيلاتها تتشكل في ذهنية كل فرد أو امرأة في الجزيرة، فقد استدعت نساء قريبات لي في أقاصي شمال الجزيرة العربية أو لنقل في أعالي الحجاز كما تسمية الكتب القديمة، وهي الآن شمال غرب المملكة العربية السعودية. وما أسعدنا بهذه الوحدة أن جداتي كهذه المرأة ارملات قمن بتربية رجال ونساء لهن مكانتهن.
ولكن الظريف أني أعرف جارة لنا رفض ابناؤها زواجها مع جمالها وصغر سنها وقوتها وما زالت تعيش وقد تجاوزت الثمانين فجمعت معاناة المعيشة والتربية والحرمان من الحياة الزوجية. وكنت انتقد ولدها الذي أصر على عدم زواجها. واني ما زلت اذكر المرأة التي ربت اولادها في عسير حتى تخرجوا من الجامعات بتفوق وحصلت على جائزة الأمير خالد الفيصل. ان واقعية الرواية انتزعتها من الاقليمية الى الشمولية لتصوير تلك البلاد. فالقصة تتماشى مع قوانين الواقع التي تحكم حركة المجتمع اليومي كما هو هدف الاتجاه الواقعي للقصة الأدبية العامة. والرواية تعالج الحياة معالجة عقلانية واقعية، فهي تشير إلى العادات التي يظن أنها من الدين وهي ليست منه ومنها تلك الرؤية في الحكاية التي وقعت بيت الأم وزوجها الجديد، فقد قابلته وحادثته تمهيدا للزواج في زمن اجتماعي لا يرتضي هذه الحكاية وهو يعلو بمكان المتعلم ويحط من الجهالة وأساليبها وشخصيات القصة الأسوياء ملتزمون بالقيم الدينية والاجتماعية كالصلاة وصلة الرحم والترابط الأسري كما يتضح من المقارنة بين شخصية الأخوين آدم وشعيب. والقاص عبدالرحمن ابو حيمد استطاع في قصته الواقعية أن يلم بجوانب متعددة من معاناة الحياة الفردية واستوقفته الحياة الأسرية وصور العلاقات الاجتماعية كما أنه أعطى صورة كلية للقرية أو البلدة الصغيرة من خلال جزئيات الصور الواقعية التي تبتعد عن الخيال لكنها لا تبتعد عن الذاتية للمؤلف، فقد ظهرت شخصية المؤلف من خلال حكايات الأحداث وتحول الشخصيات حتى كان المؤلف يصور حياة الالتزام لأفراد المجتمع النجدي. فهو التزام ديني والتزام اجتماعي، فالقيد يتشكل في شخصية المؤلف ذاته فهو صور مجتمع مثالي لا نرى فيه نزوة ولا همزات شيطانية. ومن الشخصيات ذات الدلالة الكبرى في الرواية شخصية (شعيب) فإن علاقته بأهل الجاه وكيف كون ثروة مشبوهة فإنه يمثل إشارة اجتماعية لظاهرة انحراف ببعض المقدرات المالية.
أما واقعية لغة الرواية فهي أكثر التصاقا بالاتجاه الواقعي بل هي نموذج فريد، فهو رجح جانب الفصحى من ناحية بنية الالفاظ والتراكيب والصياغة، لكن هذه الألفاظ من الالفاظ المتداولة الشائعة بين عامة أهل الجزيرة مع فصاحتها. ومن هنا فإنها سهلة ميسورة لكنها ترتفع عن السوقية الشعبية وهيمنة اللهجة الاقليمية المنزوية. وحاول أن يأتي بالتراكيب أو الألفاظ المحلية بتقريب أكثر وميل إلى فصاحة الكلمة وأن تساهل في الإعراب والتركيب في حكاية الأقوال الشخصية الشعبية. إذن فليس هناك تناقض بين لغة الرواية واللغة الاجتماعية الشائعة الشعبية. والرواي أخفى شخصية اللغوية وراء شخوص الرواة ولغاتهم فهو جعلهم يتحدثون ويتحاورون، ولم تلمح الظهور للقاص بوضوح حين يسترسل في الوصف والوعظ أو لنقل التحليل. ومع كل هذه المقارنة اللغوية فان لغة النص لغة أدبية ذات لوحات جمالية وذات صياغة راقية آخذة تستهوي الملتقي وتجتذبه.
إن رواية (نساء في مهب الريح) حلقات اجتماعية بل لوحات تشكيلية اجتماعية متلاحقة ومتوالدة بعضها عن بعض مع التأثر بالجينات الجديدة التي تميل بالتحولات الاجتماعية ذات اليمين وذات الشمال، فهي تشخص الفكر الذي يهطل على الجزيرة في زمن تتابع الوسائل الإعلامية الحديثة والمعاصرة. انها قصة بوح من الروائي (أبو حيمد) امتلأت بها نفسه كما امتلأت بها نفوس كثير من أبناء نجد لكن كاتبها استطاع أن يفصح عما اختلج في كيان مجتمعه، فهي تكشف عن ذكريات واقعية، وعن واقع معاش وعن استشراف زمني.
د. مسعد العطوي
عضو مجلس الشورى |