يحتفي المشهد الثقافي الفرنسي هذه الأيام بالمفكر ميشيل فوكو بمناسبة مرور عشرين عاماً على رحيله. ويحتفل مهرجان الخريف الفني الثالث والثلاثون في باريس بهذه الذكرى بعقد ندوات ومسرحيات ومناظرات وأبحاث أكاديمية عن الفيلسوف الراحل ومناقشة أعماله الفكرية التي ربط فيها بين الفنون التشكيلية والأعمال الأدبية كالمسرح والسينما والموسيقى، إضافة لسلسلة من الإصدارات..
يعتبر فوكو أحد أهم الفلاسفة خلال القرن العشرين، وتعد مؤلفاته بمثابة مراجع في ميدان اختصاصها، ابتداء من كتاب (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) عام 1961م مررواً ب(الكلمات والأشياء) عام 1966م و(اركيولوجيا المعرفة) 1969م أحد أهم كتبه، و(الرقابة والعقاب) 1975م، وانتهاء ب(أقوال وكتابات) الذي صدر بعد عشر سنوات من وفاته. وقد ترجمت أعماله إلى أغلب اللغات العالمية ولكن في عالمنا العربي لا نجد أي ترجمة كاملة له.
وفوكو مفكر مناضل وفيلسوف . نادى بالقطيعة أو التحرر من التصورات الحداثية الكبرى للتاريخ والخطابات الوضعية التي ترى أن الحقيقة هي توافق بين الشيء والفكرة التي نحملها عنه، حيث تقترب الفكرة من الصحة كلما زادت درجة التوافق بين الخطاب والواقع. ففوكو ينفي وجود هذا التوافق لأننا لا يمكن أن نفصل الموضوع عن إطاره، وهذا الإطار هو الذي يرسم تصوراتنا للموضوع، وهذا التصور مرتبط بظروف مختلفة وبتاريخ متشابك من المراحل والمصالح والرغبات.. إذن الموضوعية غير موجودة، والأفضل عند دراسة ظاهرة معينة أن نبحث عن الخطابات التي صيغت وتم التداول حولها لهذه الظاهرة، وليس البحث عن ماهية الظاهرة وتعريفها. وفوكو لا ينفي وجود حقيقة، بل يقول بنسبيتها، فالمعرفة ليست مرآة تعكس الموضوع، ومن ثم يرفض مفهوم الحقيقة كتوافق مع الموضوع، وهذا ما جعله في قطيعة مع الحقائق الكبرى التي تطرحها الإيديولوجيات السائدة، فبدلاً من تلك الحقائق العامة ينبغي البحث في الخصوصيات، فلا يوجد خطاب كامل ناجز، بل تداخل متواصل تجريبي بين الفرد ومحيطه. مثلاً في دراسته لتاريخ الجنون، تجاوز فوكو التقليدية لهذا الموضوع وترك البحث في تعريف الجنون كشيء ثابت، وتوجه إلى محاضر الشرطة والكتب المغمورة ومؤلفات الدجالين والسحرة، وحلل أسلوب تفكير البشر في تمييزهم بين العقل والجنون وتغيرات الخطاب لدرجة التناقض، ثم أثبت أن هذا الموضوع وأدوات دراسته تم إنتاجها عبر تطور المجتمعات، وبذلك يقطع مع فكرة وجود الجنون كظاهرة اجتماعية ونفسية ثابتة.
وفي مقام آخر أوضح فوكو أن مفهوم الإنسان الذي اعتمده كثير من الأفكار كمبدأ مركزي لتفسير لعض الأشياء ليس ثابتاً، بل متغيراً عبر المراحل التاريخية، مما قاده لعبارته المشهورة (موت الإنسان) التي صاحبها كثير من اللغط . وبطريقة مشابهة قام فوكو بدراسة عالم السجون بطريقة عدها المتابعون فريدة من نوعها، حيث قام بتحليلها في سياق تاريخيتها، انطلاقاً من ولادتها وحتى مفاهيمها الحديثة.. لتدخل هذه الظاهرة إلى ساحة النقاش الفكري والفلسفي، مما أثار هزة كبيرة وصلت إلى مؤسسة السجن ذاتها.
وخلال قطيعته هذه مع الأيديولوجيات الكلية التي قامت على الثنائيات (النخبوي والشعبي، الذكورة، والأنوثة، الذات والموضوع..) يحاول فوكو تحرير الإنسان من المفاهيم الكلية والمعيارية وإعادته إلى فرديته فطرح شعار جمالية الوجود كغائية للسلوك البشري. وفي منتصف السبعينات حين كانت التصورات الوجودية، الماركسية، البنيوية..، مسيطرة على المشهد الثقافي، قامت فلسفة فوكو كبديل لهذه التصورات مفككاً آليات القمع والنبذ التي أسست لحداثة المجتمع الغربي، الذي دفع بالفقراء والمجانين والمعوقين إلى الهوامش باعتبارها (عورة الحداثة). وهو بذلك يؤكد قطيعته مع الأساليب التاريخية التقليدية السائدة وتقديمه لمفاهيم جديدة تجابه الحداثة والعقلانية الغربية التي قامت على العنف والإقصاء وسلطة النبذ. ويؤكد فوكو على تزامن أو تقاطع المعرفة مع السلطة بمعناها الواسع، لا الحكومية فقط كما قد يبدو، فالفكر البشري إما في صراع معها أو في توافق مما ينتج عنه أفكاراً جديدة..
يبرز في نصوص فوكو طابع اللا نظام والفوضى، مما دعا خصومه إلى مهاجمة نصوصه التي يغيب فيها المنهج والنسقية مفضية إلى ضعف بنائه، خاصة طريقته في الانتقال من مجال معرفي إلى آخر.. من الفلسفة إلى الفن.. من السينماء إلى الموسيقى.. وفوكو يرحب بهذا النقد ويعترف باللا نظام، منادياً بالفكر المفتوح الذي يتحرك على أرضية مشتركة بين المعارف والمناهج والمقولات دون تشكيل فكر ناجز متكامل لأن مثل هذا الفكر الذي يقدم أجوبة نهائية خالصة يصبح ميتافيزيقياً، ومغلقاً على ذاته ومستبداً.. وبذلك يمكن اعتبار فكر ميشيل فوكو (الفكر المضاد للمؤسسة) كما أطلقه العديد من المفكرين خاصة في اهتمامه الكبير بعالم السجون وظاهرة الجنون.
|