من نافلة القول هنا أن مسلسل (طاش ما طاش) خطاب ثقافي نقدي اختار التمثيل وسيلة للوصول إلى المشاهد السعودي بل جاوزه إلى الخليجي ووصل أخيراً إلى الدائرة العربية.. وأعتقد أنه عمل إبداعي من الناحية الفنية واجتهادي في مضامينه الفكرية والاجتماعية والسياسية ومساربه النقدية.. لقد شاهدت مثل غيري حلقة يوم الخميس الماضي 14-9-1425ه الموسومة ب(وا تعليماه) والتي دارت أحداثها في إحدى محاضننا التربوية والتعليمية وكان فيها التصريح والتلميح والإشارة المباشرة وغير المباشرة إلى أن مدارسنا سجون فكرية ومناهجنا إقصائية تكفيرية وجل معلمي فلذات أكبادنا المواد الإسلامية وبعض القائمين على إدارة هذه المؤسسة الحكومية متطرفون بل إن وزارة التربية والتعليم بأسرها تقف خلف الفكر المتشدد وإن أحسنا الظن تسكت عنه في مدارسها.
إن فريق هذا المسلسل المحلي كان وما زال يقدم خطاباً ثقافياً إعلامياً له دور أساس في بناء الصورة الذهنية اللاشعورية لدى المشاهد الذي يحرص على متابعته وبشغف لما فيه من متعة وتسلية نتيجة اتخاذه الكوميديا مدخلاً للنقد المجتمعي، وهو مدخل نفسي جيد يؤثر على الصغير والكبير ذكراً كان أو أنثى غالباً.. ومثل هذا الخطاب ينتظر منه أن يؤدي أولاً دوره اتجاه مشاهديه في بث الوعي إلى المستوى الذي يؤهلهم للقيام بواجبهم الديني والوطني والحضاري التنموي بفاعلية وإتقان دون تخلٍّ أو تقاعس حتى يكون الواحد منا أكثر مصداقية وأول مضح بمصالحه الذاتية من أجل هذا الوطن وأمنه وأشد التزاما بقيمه وعاداته، وتمثل هذه المهمة الحقل التطبيقي لكل مستشعر لمسؤوليته الوطنية ومدرك لواجبه نحو البناء التنموي في هذا الوطن المعطاء.. أما ممارسة النقد فهي تأتي تبعاً وإن كانت في نظري وظيفة أساسية لتطوير أي عمل سواء كان ثقافياً أو سياسياً أو اجتماعياً والرقي بأي مجتمع كان، وعندما نستثني (المقدس) (النص القرآني، وما تواتر على شروط الصحة من الحديث النبوي الشريف) يجد كل منا أمامه مساحات واسعة للنقد البنّاء الهادف إلى تطوير المجتمع وإحياء القيم الإنسانية بين أفراده ولكن الشرط الذي لا بد منه هنا أن يجيد المتبني للمنهج النقدي قبل أن يطبقه على مجتمعه آلياته ويتقن استخدامها ويتوافر على خلفية قادرة على تحديد المساحات الخاضعة للنقد من حيث طبيعتها وخصائصها والظروف التي تمر بها ودرجة أولوياتها لكي تكون العملية ايجابية وباتجاه البناء والتقويم والتجديد والتطوير لا الهدم وإثارة الحفائظ وإيغار الصدور أو حتى تقديم سند وشهادة يوظفها الآخر أيّاً كان ليدلل بها ويبرهن بنتائجها على أن ما كان يقوله اجتهاداً وتخميناً أو حتى بناءً على دراسات وتحليلات هي محل اتهام من قبلنا ونحن في مرحلة الدفاع والنقض.. حينها فقط سيكون النقد سبباً لمعرفة مواطن القوة وتشخيص أبعاد الضعف وعوناً على وضع اليد على الجرح.. لقد قفزت هذه الحلقة - في اعتقادي الشخصي - على الحقائق.. وبالغت في تشخيص الواقع وعممت الصورة داخل مدارسنا ولم تستثن.. وإشكالية التعميم من الإشكاليات التي تخرج الخطاب أيّاً كان عن إطار المنهجية الصحيحة والضوابط المعتبرة والفنيات التي يجب الالتزام بها حين مخاطبة الجمهور، ولذلك فإنني على الرغم من قناعتي التامة بشعبية هذا المسلسل وقدرات رموزه وإمكانياتهم الفنية والنقدية إلا أن ما يؤخذ عليه في هذه الحلقة بالذات مسألة التعميم وتوجيه سهام النقد المباشر والصريح الاتهام المعلن الواضح في قضية مصيرية وخطيرة، نعم ظاهرة التطرف.. ومنهج التكفير.. وأسلوب الإقصاء.. جميعها أمور مؤذية مرفوضة وسبيل ممهد لما عرف عالميا بالإرهاب.. ولا أظن أننا نجهل آثارها الدامية على أرض بلادنا الحبيبة المملكة العربية السعودية حفظها الله وحماها.. إلا أنني أعتقد أننا نتفق على أن تشخيص الظاهرة أيّاً كانت وكشف أسبابها الحقيقية الركيزة الأولى في الانطلاق نحو العلاج السليم الذي لا يختزل الدور في التعامل مع أعراضها السطحية بقدر ما يركز على اقتلاع جذورها وعللها الجوهرية.. ونتفق كذلك على أن هذه المهمة توجب تكاتف جهود مختلف الهيئات ومؤسسات المجتمع ورموز الفكر والسياسة والتربية والثقافة كل حسب طبيعة أدواره ومسؤولياته في إطار من التنسيق والتكامل.. فما يقدمه الإعلام يجب أن يتكئ على ما توصل إليه العلماء والساسة والمفكرون والباحثون والدارسون في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم الداخلية والخارجية حتى نتمكن من صياغة رسالة إعلامية ملائمة والظرف الذي نمر به نتوجه بها للرأي العالمي العام تحكمها استراتيجية وطنية موحدة هدفها الدفاع لا الإدانة.. وإذا كنا جميعا ندرك قيمة الفن في جميع صوره ومنحنياته كأحد مكونات الثقافة - المؤسسة الأهم في طرح هذه الإشكالية - ودوره في تسليط الضوء على قضايانا الاجتماعية والثقافية ورسالته في النقد البنّاء بمعاييره الاجتماعية وملابساته الثقافية إلا أن الأمر في القضايا التي عرضت لها الحلقة جد مختلف ويحتاج الى تناول خاص تراعى فيه كل الظروف التاريخية والعصرية التي تلوح في الأفق، وكذلك المردود الاجتماعي والفكري الذي قد يضفي على أبعاد الصورة مكونات غير واقعية أو على الأقل غير مدروسة وربما وظفت كمصادر لدراسات أخرى تخدم الاستراتيجية الغربية بشكل فاضح لا نستطيع معه أن ننطق ببنت شفة.
فالله الله على رسالة النقد البنّاء الذي يلفت النظر إلى ما يستحق النظر بالفعل وليس التهويم في فضاء التخيل، أو التهويل والتعميم، بعيداً عن الموضوعية في الطرح والمصداقية في التناول.. والله الله على رسالة الإعلام حين تصبح قاطرة تسهم في النهوض بواقعنا الاجتماعي العام بناءً على رؤية للغايات السامية لمجتمعنا، وعلى إدراك واع وسليم بحجم ما تتناوله من مشاكل وقضايا.
|