مفهوم (هجرة العقول)، مفهوم سابق لمفهوم (نزيف العقول)، وكان سائداً عندما كانت أعداد العقول التي تهاجر محدودة قليلة، والهجرة (لغة) هي التَّرك، وقد عُرفت في تاريخنا الإسلامي بكثرة، مثل الهجرة إلى الحبشة، وهجرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فهو قد هجر مكة أي تركها إلى المدينة المنورة. والعقول المهاجرة تترك أوطانها إلى أوطان أخرى، أما مفهوم (نزيف العقول) فقد جاء بعد أن زادت هذه الظاهرة، وأصبحت مثل نزيف الدم، الذي يؤدي إلى الضعف وإلى مرض (فقر الدم)، وإذا كان نزيف الدم يؤدي إلى فقره، فإن (نزيف العقول) يؤدي إلى فقر الأمة في الكفاءات والقدرات البشرية الفاعلة التي يمكن أن تقود إلى النهضة والتنمية.
وسُمِّي أصحاب هذه الهجرات ب(العقول المهاجرة) لأنهم يستخدمون عقولهم وفكرهم في إنتاج يفيد البشرية، ويدفع عجلة التقدم إلى الأمام، ويخدم المجتمع. ولا يُقصد بالعقول المهاجرة حملة الدكتوراه أو الماجستير أو الدبلوم فقط، وإنما يشمل ذلك كل كفاءة أو خبرة في مختلف المجالات الإنسانية والعلمية مثل الطب والهندسة والحاسب الآلي والاقتصاد والفيزياء والكيمياء والإدارة ونحوها مما يخدم المجتمع، أو يساعد على دفع عجلة التقدم في أي مجال من مجالات الحياة المختلفة.
البلدان الإسلامية وطرد العقول
مما يؤسف له أن الدول الإسلامية، والعربية على الأخص، من أكثر المناطق في العالم طرداً للعقول والكفاءات والمهارات العالية، فقد نشرت أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر تقريراً يبين أن أكثر من (450) ألف مصري من حملة المؤهلات العليا قد هاجروا إلى الغرب خلال الخمسين سنة الماضية، برز منهم (600) عالم في تخصصات نادرة جداً مثل أحمد زويل وفاروق الباز ومجدي يعقوب، ويجب أن نلاحظ أن هذا الرقم لا يشمل إلا حملة المؤهلات العليا فقط. وهناك مؤشرات على أن الولايات المتحدة الأمريكية استقبلت في عقد التسعينيات الميلادية حوالي ستة آلاف شخص من مصر سنوياً، معظمهم من ذوي الكفاءات والمهارات العالية.
ويمكن تقسيم الكفاءات المهاجرة إلى ثلاث فئات:
أ - طلاب ذهبوا للدراسة، فطاب لهم المقام فأقاموا.
ب - حملة شهادات ذهبوا للتدريب ورفع كفاءتهم، فوجدوا الظروف هناك مواتية للإقامة وأفضل مما كانوا فيه فقرروا البقاء.
ج - كفاءات تركت عملها وهاجرت للعمل في الغرب.
وكلمة نزيف هي أفضل مصطلح لمثل هذه العمليات، فقد أشار زميلنا الدكتور محمد عبدالعليم مرسي الذي كان يعمل في قسم التربية بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام في دراسة له عن هجرة العقول من العالم الإسلامي، إلى أن مصر - الدولة الفقيرة - تقدم مساعدات وإعانات بطريق غير مباشر للولايات المتحدة الأمريكية - البلد الغني - وتلك المساعدات تتمثل في الكفاءات البشرية التي تهجر مصر إلى أمريكا. وقد قام بتقدير تكاليف الشخص أثناء الحمل، وبعد الولادة، وتنشئته حتى يلتحق بالمدرسة، ومن ثم تكاليفه في المراحل الدراسية المختلفة، حتى إذا أصبح جاهزاً للعطاء ولخدمة بلده يهاجر إلى أمريكا فتقطف ثمرة يانعة لم تعمل على غرسها، ولم تتعهدها بالرعاية من قبل!!.
ومن جهة أخرى، تشير التقارير إلى أن القارة الإفريقية فقدت ثلث عمالتها من المهنيين المهرة خلال العقود القليلة الماضية، وان حوالي 23 ألفاً من الأكاديميين يهاجرون كل عام بحثاً عن فرص عمل أفضل، مما اضطرها لاستبدالهم بمهارات غربية بلغت تكلفتها أربعة مليارات دولار، وتشير تلك التقارير إلى أن هجرة العقول تسببت في تدهور البيئة، وفي تعطيل مشروعات التنمية، وهذه الأرقام تشمل العقول المهاجرة من الدول العربية في شمال إفريقيا. وتشير التقارير كذلك إلى أن الدول العربية تخسر سنويا بسبب هجرة العقول ما يقارب ملياري دولار. أما تسرب الكفاءات وانتقالها من الجامعات إلى قطاعات اخرى داخل المجتمع فإنه يكون مفيداً في معظم الحالات، فبهذه الطريقة تنتقل خبراتهم، ويخرجون من أبراجهم العاجية إلى واقع الحياة، وهذا مفيد شريطة أن يكون هناك سياسة لتعويضهم وإحلال كفاءات جديدة مكانهم.
أسباب هجرة العقول
عوامل الهجرة في علم الاجتماع تنقسم إلى قسمين:
1- عوامل الطرد: وهي مجموعة السلبيات الموجودة في البلد الطارد، مثل عدم توافر الخدمات والحرية، أو عدم توافر الأمن وعدم توافر الفرص الوظيفية، والفرص التعليمية، ونحو ذلك من العوامل التي تطرد الناس من مكان إلى آخر.
2 - عوامل الجذب: وهي مجموعة العوامل الإيجابية في البلد الذي تتم الهجرة إليه مثل توفر الحرية والخدمات والفرص الوظيفية ونحوها، وأسباب هجرة الكفاءات تختلف من شخص إلى آخر، ولكن الأسباب لا تخرج في الغالب عن سبب أو أكثر من الأسباب التالية:
1 - البحث عن فرص عمل: فمعظم المتخرجين في كليات الطب في باكستان لا يجدون أعمالا في بلادهم، فيضطرون إلى الهجرةإلى الغرب، ومعظمهم يذهب إلى بريطانيا، وتشير الإحصاءات أن ما يقارب 40% من الكوادر الطبية في بريطانيا هم كفاءات مهاجرة من البلاد العربية والإسلامية.
2 - محاولة تطوير كفاءاتهم وإمكاناتهم: فقد يجد الشخص عملا ولكن ذلك العمل لا يرضي طموحه، ولا يطور كفاءاته فيعمد إلى الهجرة، فالجامعات العربية تنفق على البحث العلمي 1% فقط من ميزانياتها، وتهتم بالأشياء الشكلية والمظهرية أكثر من الاهتمام بالأشياء المهمة والجوهرية، بينما تنفق الجامعات الأمريكية 40% من ميزانياتها على البحث العلمي، ومن لديه أفكار واستعداد للبحث فإنه يجد من يدعم بحثه ويتبناه، ثم إن الجامعات هناك لا تضع قيوداً على حضور الندوات والمؤتمرات بعكس الجامعات العربية، التي يقل فيها قيام الندوات، ويقل سماحها لأعضاء هيئة التدريس بحضور اللقاءات العلمية خاصة الخارجية منها. ولهذا فإن عضو هيئة التدريس هناك ينمو ويتطور، بعكس ما هو حاصل في معظم البلدان العربية.
3 - الهروب من الاضطهاد والبحث عن الحرية: والشواهد على ذلك تتمثل في هروب العقول المسلمة من الهند هرباً من الاضطهاد الهندوسي، ومن البلاد الشيوعية سابقا هربا من التسلط الشيوعي، وتشير الإحصاءات إلى أن الأطباء الذين غادروا العراق بعد عام 1990م تجاوز عددهم (400) ألف طبيب.
مقترحات وتوصيات
إن سلبيات نزيف العقول واضحة وبيِّنة، فهي تضعف التنمية، وتضعف البحث العلمي، وتعطِّل مشروعات التنمية، وإذا كان لها من فائدة فإنها تتمثل في التحويلات المالية التي تصل إلى البلدان العربية من بلدان المهجر، وفي صقل تلك الكفاءات وتطوير أدائها، ولا فائدة من ذلك الصقل ومن ذلك التطوير للكفاءات إذا لم تعد إلى أوطانها وتؤدي بعض الدَّين الذي عليها لتلك الأوطان، ولهذا يجب العمل على الاستفادة من تلك الكفاءات جزئياً أو كلياً، وأقصد جزئيا أن تعود إلى بلدانها لتعمل بعض الوقت مثل الصيف، أو المناسبات، وأن توجه بحوثها لمعالجة مشكلات البلدان التي جاءت منها، أما الاستفادة الكلية فتتمثل في العودة والعمل في البلاد التي خرجوا منها. ولقد تبين لي اثناء إقامتي في الولايات المتحدة وإجراء بحثي الميداني الذي خرج في كتاب بعنوان (المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية.. دراسة ميدانية) أن أعداداً كبيرة من الكفاءات المسلمة التي تعيش في أمريكا ترغب في العيش في المملكة العربية السعودية، لتكون قريبة من الحرمين الشريفين، ولتنشِّئ أبناءها تنشئة إسلامية في مجتمع مسلم. والمملكة العربية السعودية قد أنعم الله عليها بنعم كثيرة وهي في حاجة إلى تلك الكفاءات، وخاصة تلك التي تحتاجها خطط التنمية، ولهذا فإنني آمل من المسؤولين في بلادنا الحبيبة دراسة هذا الموضوع ووضع استراتيجية لجذب الكفاءات التي تساعد في دفع عجلة التنمية إلى الأمام، ومن ثم تجنيس من تنطبق عليه الشروط بعد أن يمضي إقامته في البلاد فترة كافية للحكم عليه، وعلى ما يمكن أن يقدم للبلاد وآخر دعوانا.. أن الحمد لله رب العالمين.
|