*بقلم الخطاط: معصوم محمدخلف*
في البدء كان الحجاز موطناً للأبجدية، وملتقى الكتابة العربية وفنون القلم ومنه انطلق الفن المتولد من هذه الكتابة. وبعد ازدهار فن الخط العربي ثم انتشاره في أرجاء العالم الإسلامي الواسع، صار بالإمكان رسم خارطة جيو فنية تحدد مواقع الارتكاز للخطاطين، هؤلاء الذين يخرجون بين فترة وأخرى بلوحات خالدة تنطق بالعبقرية وتستنهض الهمم وتشد العزائم وكأنهم المصابيح الدرر، فهم الذين يرتكزون الى مرجعيات أساسية غير قابلة للتحديث ولا تهزها رياح العولمة باعتبارها إحدى ثوابت الأمة، ومأوى أفئدة المبدعين من خط وشعر وهو مزيج متآلف من التجليات الخصوصية التي يختزنها كلما ازددنا عمقا ودراسة في البحث عن أسراره وروائعه؛ ليفتح لنا بوابة تستشرف معاقل العبقرية والسماحة والوداعة والجمال.
وفي هذه الحلقة نختزل المسافة لنمضي معاً مع أحد فرسان القصب ورائداً من رواد فن الخط، إنه الخطاط ناصر عبدالعزيز الميمون.
يعد الخطاط والفنان ناصر عبدالعزيز الميمون واحداً من الخطاطين القلائل الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة في العالم العربي والإسلامي، حيث يعمل بصدق في تطبيق القوانين الأساسية والأسس المنهجية لإبداع الخط العربي.
فهو كالمرآة التي تعكس الأسلوب الكلاسيكي الصرف لنمطية الحرف عبر تقنية فائقة ودراية واسعة، ويؤكد بأن كل مشايخ الخط ومعلميه هم أساتذة له، وهذا الوصف إن دل على شيء فإنما يدل على التواضع الكبير والنفس التوّاقة والمهمة في طلب المزيد باحثاً ومبدعاً عن أسرار هذه الأبجدية العظيمة.
حيث يأخذ من المدرسة التركية والمتمثل في شخصية خطاط القرن، حامد الآمدي ومن المدرسة البغدادية وقدوتها الخطاط هاشم محمد البغدادي، ومن المدرسة الايرانية وفارسها الخطاط مير عماد الحسني، كبير خطاطي بلاد فارس، ومن المدرسة المصرية الأستاذ محمد عبدالقادر، حيث يجمع من هذه المدارس الأربعة خبرات موروثة وتجارب حضارية ومواهب فريدة، لذلك فالخطاط ناصر الميمون هو خلاصة مدارس وجمع خبرات وحصيلة ناضجة من التراث وثمرة متكاملة من ثمرات التجارب فنية الرائدة.
فالثقافة العربية لها جوانب بصرية أساسية، فالكلمة المكتوبة تستدعي مجهودا بصريا لادراكها وفهمها، أي أن القراءة مهما حصلت داخل سياق ثقافي تطغى فيه الكلمة المنظمة، فهي تفترض تدخل العين لتفكيك الرموز أو الكلمات المكتوبة، لا سيما إذا كانت النصوص مرصعة بخطوط عربية ذات أشكال وحركات بديعة.
فللخط العربي ازدواجية أو ثنائية في الهدف، هدف ظاهري وهو الهدف اللغوي، وهدف باطني وهو الهدف الروحاني الذي عجزت الآلات الحديثة والحواسيب الدقيقة من إلغاء دورها المهم في العملية الجمالية لبنية الحروف.
والخط الحسن كالصوت الحسن يزيد في الحق وضوحاً، وقال القلقشندي في الموازنة بين الخط واللفظ : إنهما يتقاسمان فضيلة البيان ويشتركان فيها من حيث ان الخط دال على اللفظ، والألفاظ دالة على الأفكار، إلا أن للفظ معنى متحركاً والخط معنى ساكناً، كما أن اللفظ فيه العذب الرقيق السائغ في الأسماع، كذلك الخط فيه الرائق المستحسن الأشكال والصور.
من هذا المنطلق وضع الأستاذ الخطاط ناصر الميمون نصب عينيه على جمالية هذا التراث الخالد.
ويقول الخطاط عن مشاركاته قائلاً:
بتوفيق من الله تعالى تمت لي عدة مشاركات دولية وكان أولها: المسابقة الدولية الأولى في فن الخط باستنابول في عام 1987م وقد حضرت حفل الافتتاح في مركز الأبحاث والفنون الاسلامية الذي هو مقر المسابقة وتسلمت جوائزي الأربع في خطوط: الثلث والنسخ والتعليق والديواني، وكان لي شرف القاء كلمة الخطاطين العرب في هذا الاحتفال الأول في العالم، وفي عام 1988 دعيت الى المشاركة في المهرجان العالمي في بغداد للخط العربي والزخرفة الاسلامية، والتقيت بكبار الخطاطين العرب، وبعض خطاطي الدول الاسلامية وقد استفدت من آرائهم وتوجيهاتهم وحصلت على جائزة من جوائز المهرجان فسررت بها كثيرا وكانت مشاركتي الثالثة في المسابقة الدولية الثانية في تركيا وفزت بأربع جوائز في خط الثلث والخط الديواني وخط المحقق وخط الإجازة، وكانت هذه من أعظم مشاركاتي الدولية وكانت في عام 1990م ، أما مشاركتي الرابعة فكانت في معرض الخط العربي الأول لدول مجلس التعاون الخليجي في دولة الكويت، وقد شاركت بتسع لوحات في أغلب أنواع الخطوط، حيث أثارت إعجاب الكثيرين من محبي الخط العربي في الكويت الشقيقة، وفي عام 1994م شاركت في المسابقة الدولية الثالثة لفن الخط بتركيا وحققت الفوز بجائزتين، ثم حضرت بينالي الشارقة الدولي الثاني وحصلت على الجائزة الثالثة في مجال الخط العربي، بعدها شاركت في مسابقة الشهيد الثالثة للخط العربي بدولة الكويت في عام 1997م وحصلت على إحدى جوائز المسابقة، ثم شاركت في معرض الخط الثاني لدول مجلس التعاون الخليجي بالبحرين.
ثلاث عشرة جائزة ما بين دولية وعالمية أحرزها هذا الخطاط المتألق في دنيا الحرف العربي وندعو الله تعالى أن يوفقه ويرزقه سعادة الدنيا وحلاوة الآخرة وأن يلهمه العزيمة والقوة والصبر، حيث يتابع بشغف في اقامة دورات تعليمية وخاصة في الغرفة التجارية بالرياض، وفي معهد تحسين الخطوط العربية بالرياض، وكذلك في جماعة الخط العربي السعودية بجدة، اضافة الى دورات تحسين الخط العربي التي تقيمها مدارس الأبناء بوزارة الدفاع بالرياض، كل هذه النشاطات والفعاليات ينبت في نفوس المتدربين والمتعلمين نهجا قويما يتداوله الأجيال الجديدة التي تنظر الى جمالية الخط العربي برؤى عميقة في تخزين الذاكرة بالتراث.
كما إن الرئاسة العامة لرعاية الشباب في المملكة العربية السعودية لم تقصر في تكريم هذا الخطاط الكبير ماديا ومعنويا وخاصة عندما قام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن فهد بن عبدالعزيز بتكريمه في عام 1998م عند حصوله على جائزة خط الثلث في المسابقة الدولية الرابعة في استانبول، بالاضافة الى المساعدات المادية والمعنوية في اقامة المعارض الشخصية، كما لا ننسى دعم وتشجيع صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد رحمه الله. لذلك فعندما يلتقي القادة والرموز الهامة في الدولة على محور واحد يجتمعون فيه مع عشاق الثقافة والفن والتراث فإن ذلك اللقاء يتم تجسيده بتلاحم مشترك لعشق الوطن والأصالة، كما يعطي دفعاً في مسيرة النهوض بالمجهود التنويري العام الذي يشمل العقل والسلوك والذوق، وهي أدوات لثلاثة مجالات متكاملة هي الفكر والأخلاق والقيم الجمالية.
* مدرس الخط العربي والفن الإسلامي في معهد الدراسات الإسلامية والعربية بالحسكة / سوريا .
المراجع
- مجلة - حروب عربية - العدد الثاني 2001م ندوة الثقافة والعلوم،
دبي، الإمارات العربية المتحدة.
- كتالوج اللوحات الفائزة في المسابقة الدولية الثالثة لفن الخط، مركز
الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية استانبول 1994م.