المملكة العربية السعودية وما تشهده من ازدهار وتطور على جميع الأصعدة والمجالات ولَّد لدى بعض ضعفاء النفوس والإيمان أن يتحاملوا على هذا المجتمع بما ينعم به من خير وأمن ورفاهية، متناسين أن سعادة هذا المجتمع هو سعادة لكل المجتمعات الإسلامية قاطبة، وفخر وخير وبركة لمَن في قلبه ذرة إيمان. ولا شك أن عزاءنا أن الدنيا لم تصفو لسيِّد الخلق أجمعين وأطهرهم وأنقاهم سريرة والشافع المشفَّع صلى الله عليه وسلم؛ حيث واجه المخالفين والحاسدين باللسان والسنان، حتى فتح الله على يديه الأمصار، ودخل الناس دين الإسلام بعد قناعة وإيمان.
لقد انجلت الغمامة عن عيون المخدوعين، واتضح للبعيد قبل القريب، وللعدو قبل الصديق، زيف وضلال الفكر الذي يعاني منه بعض الشباب ممَّن يدعي أنه ينتمي إلى بلادنا، بعد حادث الاعتداء على مبنى الإدارة العامة للمرور في مدينة الرياض وما أعقبه من مخططات.
إن الإرهاب الذي تعيشه بلادنا قد تذرَّع بانحراف فكري جامح، قام على التكفير، واعتمد على مصادر جانحة وتفسيرات غير موثوقة ونصوص مفصولة و مبتورة، ثم حوَّلها إلى ذرائع لتخريب المجتمع، وإعاقة التنمية، وترويع الآمنين، وزعزعة الاستقرار. ولا يختلف اثنان على أن دين الإسلام بريء من هذه الأفكار؛ لأنه رفع الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وحبَّبهم في الدين، فسماحة الإسلام هي التي جعلت الكافر يقرُّ ويعترف بنقائه وصفائه.
إن التساؤل الذي يفرض نفسه ويحتاج إلى وقفة صادقة هو: هل ما عمله أصحاب هذا الفكر في بلاد الحرمين يُحبِّب الناس في الإسلام كدينٍ خاتمٍ رباني، قام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، أم العكس؟
أسباب تساهم في تفريخ إرهاب الفكر المنحرف كما ذَكَرَتْهُ بعض الدراسات
لقد تبيَّن لنا من تاريخ أمتنا الإسلامية أن من أسباب ظهور الفتن والفوضى والتطرف هو الخروج عن مسلك السلف في فَهْم الدين والعمل به، ولكلِّ دينٍ نصيبُه من الأهواء المتطفِّلة، والأفكار المُضلِّلة، ولم يسلم دينٌ قط من التطرف والتعسف بين نفر من أهله وذويه، ولكل أمة وعقيدة خوارجها ومحرِّفوها. ويمكن أن نذكر بعض الأسباب التي من الممكن أن تساهم في تفريخ الإرهاب كما وردتْ في بعض الكتابات، فما من شك، أن القلق الهستيري الذي يعانيه المتطرِّفون يرجع إلى عدة أمور، إما لفراغ في نفوسهم وشعورهم بالقحط القاتل،.
وإما لالتباس تفكيرهم وشرودهم عن جادة الصواب والحق، وإما لإحساسهم بنقصان نفوذ الإسلام، وإما لمؤامرات خبيثة تمارسها بوسائل غير منظورة قوًى خارجية تطارد الإسلام وتعمل لإحباط دعوته وتمزيق وحدته. وقد أشارت بعض الدراسات إلى أنه قد يجيء التطرف الديني ردَّ فعل لتطرُّف آخر في جانب الرذيلة والظلم والشر.
علاقة القوة العظمى بالإرهاب العالمي وردود أفعالها
بعد وقوع الأحداث الإرهابية المدمِّرة في نيويورك تغيَّرت الاستراتيجيات الأمريكية، وأعلنها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بصراحة أنه إما أن يكون العالم معه في حربه على الإرهاب، أو سيعتبرهم أعداء له. لا يختلف أحد، حتى الأمريكان، على أن أمريكا تعتبر من روَّاد الإرهاب العالمي، فتاريخها -بل وحاضرها- ملطَّخ بالدماء في كل رقعة من مناطق العالم، ولكنها أثناء فترة الحرب الباردة لجأت إلى طريقة قديمة حديثة، وهي لوي الرؤوس واستعمار الشعوب واستغلال ثرواتها عن طريق الدبلوماسية والتبادل التقني والتجاري.
ثم أخيراً من خلال بوابة العولمة. وما حدث بعد اعتداءات سبتمبر جعل أمريكا تغيِّر من سياستها، ولعل تزامن هذه العمليات مع فترة رئاسة بوش هي التي قلبت العالم من وجهة العولمة والتجارة الحرة إلى وجهة محاربة الإرهاب والتضييق على كل ما له علاقة بالجهاد الإسلامي.
ومما لا شك فيه أن قوة الولايات المتحدة قد زادت في أعين الجميع بعد أن نقلت الحرب الأخيرة على العراق مباشرة عبر القنوات الفضائية والشبكات الإعلامية العالمية من خلال الأقمار الصناعية التي تراكمت فوق سماء الخليج، ولكن هذه الانتصارات دفع ثمنها الاقتصاد الأمريكي؛ حيث سمعنا أن حجم الخسائر الاقتصادية الأمريكية من جرَّاء العمليات الإرهابية في سبتمبر قد وصل إلى نحو 50 مليار دولار، وهذا الرقم يُماثل حجم الدمار والخراب الذي تُلحقه أكبر الزلازل والفيضانات والأعاصير. ولكن المتفحِّص للاقتصاد الأمريكي في السنة الميلادية الجديدة 2004م يرى أن البنية الأساسية للاقتصاد الأمريكي استطاعت أن تتدارك نفسها رغم دخولها في حروب لا يُعرف متى ستنتهي.
لقد ذَكَرَتْ بعض الكتابات الاقتصادية الأمريكية أن الإجراءات المُشدَّدة التي تبعت أحداث سبتمبر لضرب الإرهاب ومنع تكراره المتمثِّلة في التحكُّم بمداخل ومخارج البلاد والهجرة والقيود المفروضة على الأعمال والمشاريع هي التي ستؤثر على الاقتصاد، ليس الأمريكي فحسب، وإنما العالمي، أكثر من خسائر الإرهاب الدولي نفسه. وهذا مما لا شكَّ فيه سوف يزيد من معدلات البطالة والفقر في دول العالم، وخاصة الثالث.
الاستفادة من خبرات الدول وتجارب الشعوب التي واجهت إرهاب الفكر المنحرف
لا نريد أن نكرِّر أخطاء الدول السالفة، حتى من دول أوروبا، عندما دخلت الدبابات إلى داخل الجامعات، ولا نريد أن نلغي الحوار الواعي كما فعل بعض القادة الدكتاتوريين، ونملأ السجون بالشباب. ولا نريد أن نسيء الظن بالشباب؛ فنفقدهم ونفقد العطاء والإنتاج، فالشباب هم رجال المستقبل، وهم الذين تقوم على سواعدهم المجتمعات، فإذا أردنا أن نتنبَّأ بمستقبل أُمَّة فلننظر إلى اهتمامات شبابها.
ما المطلوب منَّا جميعاً؟
إن أفضل وسيلة للمسلم الحريص هذه الأيام أن يُكثر من دعاء وعبادة الله تعالى، وأن يتعايش مع الواقع الاجتماعي الذي تعيشه بلاده وقرناؤه، وأن يصبر على الفتن والمصائب، ولن يضره شيء ما دام على عقيدة التوحيد، وأن يتجنَّب المعاصي والتعصُّب والتشدُّد والتنطُّع ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، وأن يكون مع جماعة المسلمين، ويلزم قول العلماء، فإن أخطأوا فعليهم، وإن أصابوا فلنا ولهم.
وإني أدعو الشباب المسلم المحبَّ لدينه أن يتقدم في شجاعة إلى الحياة الفرحة الفاضلة، وأن يَدَعَ حياة كآبة القلق، وحياة ظلمات التطرف ومتاهاته، وأن يحمل فكراً مقتحماً، ولكن مستنيراً، وأن يجعل من نفسه صورةً مضيئةً للإسلام العظيم. نحن بحاجة إلى دعاةٍ علماء بالشريعة وعلماء بالاجتماع والنفس والاقتصاد، يربطون أحكام الشريعة وأهدافها بالمجتمع المعاصر وواقعه.
لقد ذكر بعض المختصين أن الحوار العقلي أو الحوار البنَّاء هو الوسيلة الوحيدة لحل الخلافات والقضاء على المنازعات عند ولادتها، وخاصة إذا كانت هناك لقاءات دورية بين المسؤولين والشباب، وقد اقترحوا أن يُعَوَّدَ الشبابُ على أن يقول رأيه بكل حرية، وأن يُشَجَّعَ على ذلك؛ لأن عمليات التكتيم والتسكيت وسدِّ الأفواه قد ولَّتْ وحلَّتْ محلها الشفافية والمصارحة, ولكم في الطرق التي اتبعها رئيس أمريكا وبريطانيا خير شاهد ودليل عندما كانا يستميتان في سبيل إقناع العالم بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وها هما اليوم يعترفان بعدم وجود أسلحة مع أنهما لا يزالان يدافعان عن إقدامهما على اجتياح العراق، ويجدان مَن يسمع لهما ويؤيدهما.
وقد يقول قائل: إن منهج الحوار سيقودنا إلى طريق طويل مملٍّ، وقد لا ينجح مع بعض الفئات. نقول: نعم، قد يكون هذا الكلام فيه نوع من الصحة، ولكنه طريق سارت عليه كثير من الشعوب، وبعضها لا زال يتخبَّط ولم يصل للهدف، وكثير منها وصل إلى نهاية المطاف ونجح في تحقيق الأهداف وتصحيح الأفكار. فلنتعوَّد أن يكون تعاملنا بالفكرة لا بالقوة، أو بعبارة أخرى: بقوة الفكر لا بفكرة القوة؛ لأن منهج القوة والاستبداد الذي عاشته مجتمعات العالم في الماضي لا يصلح لواقعنا الحالي.
الخلاصة
إذنْ هي دعوةٌ أن نبدأ الحوار على جميع مستوياته. لنبدأ الحوار داخل الأسرة، وفي المدرسة، وفي المسجد، وفي الحيِّ، وعلى مستوى المؤسسات الحكومية. ولنُعَوِّدْ أبناءنا على احترام الرأي الآخر، وإبداء الرأي المدروس، والاتفاق على الرأي الذي تنتهي إليه الأغلبية، وأن يقوم الأب نفسه بتنفيذه معهم حتى لو تعارض مع آرائه وأفكاره. وهذا كلُّه سوف يزيد من معدَّل الشعور بالانتماء، وأن الوطن ومقدَّراته ملك لجميع أبنائه، وعليهم جميعاً مسؤولية المحافظة عليه؛ أمناً وعلماً وعملاً وإنتاجاً. حفظ الله لنا ديننا ومليكنا ووطننا وأمننا، وزادنا ثباتاً وعزاً وتوفيقاً.
|