يكاد يكون الافتراق حاضراً في كل أمر (فقد اجتمع الناس على ألا يجتمعوا)، فإن يكن كذلك فهو حاضر في الأدباء ومن ائتسى بهم ممن ليس منهم، فإني رأيتهم ينقسمون إلى شعبتين اثنتين من حيث الغرض من الكتابة والنشر، ففريق يكتب من أجل أن يعرض على الناس ما في ذات صدره ويظهرهم على ما لديه من أفكار وآراء نافعة، أو يأسو جراحاً دامية، أو يحل مشاكل نامية، فهذا غرض حسن لا قول فيه، ولكن منهم فريقاً - وهم الشعبة الثانية - إنما يكتبون لا للأغراض التي ذكرناها آنفاً، ولا لأمر سامٍ شريف، وإنما يكتبون من أجل أن يفرغوا ما شحنوه في صدورهم من حِسان الألفاظ، وبدائع التراكيب، فترى كثيراً منم يقحمون الألفاظ في سياق النص وهي كارهة. فهم يحبون أن يروها مقيمة بين أترابها ملتئمة معهن، وقد ورد في كتاب (الأغاني - ترجمة عدي بن زيد) أن العجاج قال عن الكميت والطرمّاح: (كانا يسألاني عن الغريب فأخبرهما به، ثم أراه في شعرهما وقد وضعاه في غير مواضعه، فقيل له: ولِمَ ذاك؟ قال: لأنهما قرويان يصفان ما لم يريا فيضعانه في غير موضعه، وأنا بدوي أصف ما رأيت فأضعه في مواضعه) وهؤلاء تجدهم - لا كثرهم الله - كثيري الكتابة، يُجلبون بألسنهم حول كل شأن، ويخوضون في كل شيء، سواء أحسنوه أم لم يكونوا من المحسنين، وهم بهذا يخالون بضاعتهم رائجة، ومتاعهم مقبولاً، وما هم بهذا، ولكنهم قوم يُخدعون!
غير أن من البشرى أن أصحاب الشعبة الثانية قليلون، ولا يجد نتاجهم قبولاً حسناً لدى المتذوقين، إلا ممن يبهره الزخرف اللفظي، ويأسر فؤاده البريق الوامض، ممن لا يعرف أسرار هذه الصنعة، ولا يحيط بها خبراً، فهؤلاء ذرهم في غمرتهم ساهين، فليس عليهم المعوّل، ولا بهم الاعتداد.
وهذا كله لا يعني الغضّ من شأن الألفاظ ولا النقص منها، فإني - أنا - من محبي التألق بها وحسن انتقائها، ولكني إنما أمقت من لا يحسن وضعها في موضعها اللائق، أي يعدم الحكمة، وأمقت من يكتب من أجل الكتابة وحسب، فهذا هو الملوم!!
وخير مذهب مسلوك في المعاني والألفاظ هو الإيدام بينهما، ومراعاتهما جميعاً، فليست المعاني بحسنة إن هي لم تُجعل في قالب من اللفظ شريف، ولا الألفاظ بحسنة إن كان جُعل فيها ما ليس يوافقها ولا يمتزج بها، وليس برشيد أن ينصر اللفظ وحده، ولا المعنى وحده أيضاً، فإنهما كذلك لا يجديان شيئاً، إذ إن نفعهما لا يتحقق إلا باجتماعهما واتحادهما، والوسط في كل أمر خير!.
وإن مما يحزنني أن أرى كتّاب الصحف والكتب وأشباهها أكثرهم إنما يعنون بالمعنى، ولا يقيمون للفظ وزناً، وهذا غلو إلى طرف، وما كان الغلو في شيء إلا شانه، أو لا يرون أن الطعام الطيب لا يُساغ إذا ما قدم في آنية صدئة دنسة؟! فكذلك شأن اللفظ والمعنى، إذ ينبغي حسن الملاءمة بينهما، وإن كان يرى بعضهم أن المعنى أولى بالتقدم، فهلا آتى اللفظ نصيباً يسيراً من النظر! ولو فعل كتابنا ذلك، وأولوا الألفاظ من همهم جزءاً، وأحسنوا انتقاءها لكان قولهم مخلداً، وهكذا فعل الشعراء والأدباء من قبل، وبهذا كان القرآن الكريم معجزاً!!
|