لا تسْأليهِ الصبر لو جَزَعا
مما رأى.. بغدادُ... أو سَمَعا
فرْدٌ... ولكنْ بين أضلعه
وطنٌ وشعبٌ يخفقان معا
صادٍ يُبللُ باللظى شفةً
ويصدُّ عن مُستعذبٍ نبعا
ألِفَ انتهالَ الراح لا بَطرَاً
أو خوفَ مُلتص ولا وَرَعا(1)
لكنه طَبْعٌ تَلَبسهُ
والمرءُ في حاليهِ ما طبعا
وبهِ حَياءٌ من مروءَتِهِ
لو راوَدَتهُ النفسُ فاتَّبعا
فَرشَتْ له الأوهامُ أبسطةً
واسْتنبتتْ صحراءهُ فرعى
صاح ولكنْ صَحْو مُخْتبل
لا فرق إنْ أسرى وإنْ هَجَعا
غافٍ يُدثِّرُه حريرُ مُنى
فتوَهَّم التابوتَ مُنتجعا
وسِعتْ أمانيه القلوبَ فما
أبْقتْ من الآفاق مُتَّسَعا
مَلكَتْ فؤاداً منه آسِرة
فسَعَتْ إليه بقيدِها... وسعى
شاخ المشوقُ بغُربتيهِ.. وإذْ
جَلَسا لمائدةِ الهوى يقعا(2)
عقدان إلا بضعة وهُمَا
يترقبان الوصلَ.. واجْتمعا
خَلَعتْ عليهِ فتونها فأبى
غيرَ العفافِ لحبِهِ خُلعا(3)
صاغتْ له من طينِها رئة
ولها أقام القلبَ مُرتبعا(4)
وتراقصتْ أعشابُ مقلتِهِ
فرَحاً بنجم مَسَرةٍ سطعا
فتناجيا لحناً وقافيةً
وتصاهرا نبْضاً ومُصْطرَعا
وتعاتُبا... كلٌّ يرى سبباً
لِيُريق كأسا بعدُ ما تُرعا
طمَعتْ بصمتٍ من يراعتِهِ
وبصرخةٍ من صَخْرها طمعا
فتشاجَرا : دَوْحا وفاخِتة
وتخاصما:ثديا ومُرتضِعا
كظما على غيْظيهما فوَشى
بهما اختلاجُ الجفن إذ دَمعا
حَيرانُ بين اثنين خيرهُما
شَرٌّ يحيقُ به إذا قنعا
فإذا أقام فقهْرُ مُغتَّصِبِ...
وسَيَستبيه الشوقُ لو رَجعا
غضّ الفؤادُ النبضَ عن ترفٍ
مُستعبدٍ فاختارَ أنْ يَدَعا
لا تسأليه الصبرَ لو جزعا
ما دام فأسُ الذلِّ قد وقعا
زارَ الديارَ ضُحى فأرْعبهُ
أنَّ الفراتَ وأهلهُ اقترعا(5)
فركتْ أصابعُ صحوهِ مُقلا
سكرتْ بخمر الحلم فانفَجَعا
ألفى الأحِبَّة بعد عودتِهِ
رمَما... ورفقة أمسِهِ شِيعا
عاشَ المواجعَ منذ فارقهُمْ
وازدادَ بعد لقائهم وَجَعا
غفلوا فعاجَلهم بفاجعةٍ
مُتربصٌّ لم يَدخِرْ خُدَعا
شبعَ الردى والقهرُ من دمهم
و(محرري) المزعومُ ما شبعا
أسفي على بغدادَ... كيف غدَتْ
سوقا وأنجمُ مجدِها سِلعا
قد كان يربطني بهودجها
حبلٌ من الآمال... وانقطعا
الجسرُ؟ تجفوه المها.. وإذا
قرُبتْ تشظى وجهُها فَزَعا(6)
أمّا (الرصافة) فالجلوسُ إلى
شطآنِها يَسْتنفرُ الهلعا
خرساءَ تستجدي الخطى صلة
والسامرين الشعر والسَجَعا
ودخان (مسقوفٍ) بمُعْتبقٍ
وغناء صب مُتعَبٍ ضَرَعا(7)
وَدَّعْتُها قسراً... وَوَدَّعني
قلبٌ أبى من بعدها مُتًعا
حّذرتُها مني... وَحَذرني
منها هيامٌ من دمي رَضَعا
لكنها تبقى رفيفَ دمي...
إنَّ الهوى أبقاهُ ما صَرَعا