* الجزيرة - خاص:
كرم الله أمة محمد -عليه الصلاة والسلام- بالإسلام ورفعها به الدرجات الأعلى.. وميزها عن سائر الأمم بأنها أمة القرآن مصدر تشريعها الأول يليه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .. حيث هما السراج المنير والطريق المستقيم لنيل رضا الله والفوز بجنته، ويقول -عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكت به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي) .
وفي السنوات الأخيرة شن أعداء الإسلام هجمة شرسة لا هوادة فيها مستخدمين أقلامهم ووسائلهم الإعلامية على اختلاف أسمائها هجمة استهدفت السنة النبوية المطهرة ساعين للنيل منها بهدف زعزعة ثقة أبناء الأمة بما جاء فيها من قول أو فعل أو تقرير.
وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة من يثبت ويحقق ما ورد فيهما من أحاديث ومواقف، ورغم ذلك ما زال كثير من المسلمين لا يعرفون كثيراً مما ورد فيهما، ولا يستطيعون التمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع من الأحاديث، وهو ما يفتح الباب أمام أعداء الإسلام للتطاول على السنة والسيرة والتشكيك فيهما، ويقلل الاستفادة من عظمة هدي النبوة في جهود الدعوة إلى الله.
فهل يكون ذلك دافعاً لتحقيق السنة والسيرة، وتوثيقها على أسس علمية، وما هي الآليات والضوابط اللازمة لعملية التحقيق والتوثيق، لتكون بمنأى عن كيد الكائدين وحقد الحاقدين؟
طرحنا هذه القضية على عدد من المتخصصين في جامعاتنا من أساتذة التاريخ والسيرة النبوية والحضارة بكلية العلوم الاجتماعية بالرياض فكان هذا التحقيق.
واجب شرعي
يقول الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن إبراهيم العُمري: إن تحقيق السيرة النبوية، وتحري الدقة في روايتها، وفيما ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم واجب شرعي على جميع المسلمين دون استثناء، كل يتحمل منه حسب قدرته، وبحسب علمه، ويتحمل العبء الأكبر في هذا الأمر المختصون في علم السنة والسيرة النبوية الذين لديهم من أدوات البحث العلمي ما يؤهلهم للقيام بهذا الأمر، كما يتحمل ذلك المسؤولون عن المراكز العلمية البحثية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، والذين بإمكانهم المساهمة بالخطط والتمويل، وتحريك الباحثين والمختصين في هذا الأمر.
وحقيقة فإن هذا الأمر أخذ جانباً من الاهتمام في السنوات الأخيرة، حيث ظهرت الكثير من الكتب والمؤلفات في السيرة والسنة النبوية المحققة والمنقحة، بل وعمد الكثير من الباحثين إلى تحقيق كتب سبق طباعتها دون تحقيق وتمحيص، فأعادوا النظر فيها مرة أخرى، وحققوا رواياتها ودرسوا أسانيدها، وخرجوا لنا بنتائج علمية جيدة في هذا الجانب.
وهنا فإنه لا بد من التأكيد على من يرغب في دراسة السيرة النبوية، أو تدريسها أن يسأل المختصين عن الكتب المفيدة ذات العناية الخاصة بتحقيق الروايات، وألا يجتهد بنفسه في اختيار الكتب، وإنما يستفيد من أهل الاختصاص في هذا الجانب.
وفيما يتعلق بوسائل الاستفادة من الجوانب العظيمة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى الله، ورد الدعاوى الحاقدة ضد الإسلام والمسلمين.. يضيف د.العُمري: يقول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}، وهذا يدل على أننا متعبدون بالتأسي والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فدراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتعريف بها يعد من أهم مقومات ضبط سلوك المسلم، وقياسه على أفعال وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدون هذا العلم الصحيح لا يمكن القياس وضبط السلوك والتأسي والاقتداء، وهذا جزء من إيمان المسلم (العلم قبل العمل) ، ولا شك أن دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تجعل المسلم داعية حقيقياً للإسلام بسلوكه وخلقه وعمله المختلف، خصوصاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم مارس حياة عملية، حيث كان داعية ومجاهداً وأباً وصاحباً وجاراً وزوجاً وبائعاً ومشترياً، يعيش بين الناس، ويسير في الأسواق، وفي الوقت نفسه يقود دولة ومجتمعاً، ومع ذلك كانت الدعوة هي رسالته وهمه، ومن أجلها أرسله الله رحمة للعالمين، ولذلك فإن على الدعاة والمسلمين أجمعين التأسي به صلى الله عليه وسلم، والاقتباس من سيرته وسنته، كلٌ بحسب مهمته، والموقف الذي يمر به، وهذا لا شك يجعل من الواجب على كل مسلم أن يدرس ويتعلم من سيرته وما يقوم به سلوكه وهو الرحمة المهداة {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
لذلك فإني أنصح المربين والدعاة أن يركزوا على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يضربوا الأمثلة العملية منها، وأن يحببوها الناس، ويعلموهم إياها، كما أنصح القائمين على المناهج في العالم الإسلامي بتركيز وتخصيص ساعات مكثفة في كافة المراحل الدراسية للسيرة العطرة، وخصوصاً في مراحل تعليم الشباب، ففيها تقويم وتوجيه لسلوكهم.
دراسة أبعاد السيرة
أما الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن علي السنيدي فيقول: هناك خطوات تواضع عليها المعنيون بتحقيق السنة والسيرة، ولعل من أبرزها:
أولاً: جمع الروايات في الموضوع الواحد، أو الباب من مختلف المصادر سواء من دواوين السنة أو من الأجزاء الحديثية أو الكتب التاريخية وغيرها، وعلى الباحث ألا يزدري مصدراً ضم روايات عن الموضوع أو الحادثة التي سوف يتناولها وأن يتسم عمله بالاستقصاء.
ثانياً: النظر في أسانيد هذه الروايات من جهة أحوال الرواة من ناحية العدالة والضبط، ومن جهة ما يكتنف الإسناد من علل ومدى اتصاله وخلوه من الشذوذ، والحكم على الإسناد بعد تلك الدراسة النقدية.
ثالثاً: موازنة الروايات ببعضها بمقابلة الرواية سنداً ومتناً بغيرها من الروايات والطرق لمعرفة مدى تفرد الرواية، وأوجه اتفاقها من غيرها.
رابعاً: النظر في المتون وما يكتنفها من إدراج واضطراب وغير ذلك من العلل، وإنما يمكن اكتشاف ذلك بالموازنة والمقارنة مع الروايات الأخرى، ثم عرض المتن على ما ثبت من نصوص ومعلومات مشهورة من سلامتها من المعارضة للروايات الصحيحة وأحوال النبي الثابتة.
خامساً: عندما يريد الباحث الوصول إلى فقه الدعوى أو أي استنتاج في ضوء النص الذي أمامه فعليه وضع المقاصد العامة للشريعة بعين اعتباره، وكذلك القواعد الأصولية المذكورة في أبواب الاحتجاج بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ودلالات الأفعال على الأحكام الشرعية، فالعلماء ميزوا بين ما يحتج به من تلك الأفعال وبين ما يحمل دلالات أخرى، ولهم آراء حول أفعال النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وأفعاله العادية مما لا صلة له بالعبادة، ومنها ما جاء نتيجة خبرة بحتة أو رأي ليس مبنياً على وحي كمسألة تأبير النخل في صحيح مسلم.
ويضيف د.السنيدي: وخلاصة القول هنا أن الباحث في مثل هذه القضايا ليس بوسعه أن ينأى بنفسه عن هذه النوعية من المصادر، وإلا غلب على كتاباته الحماس والعاطفة، ولعلي أنتهز هذا المقام لأدعو الإخوة المختصين إلى وضع ضوابط لكتابة فقه السيرة والسنة، والذي نلمسه الآن أن هناك دراسات وجهوداً في مجال دراسة المرويات حري بنا أن نقدرها وأن نذكرها.
فحسب أولئك الدارسين والباحثين أن نبهوا إلى تلك الروايات الموضوعة والأخبار الأسطورية التي أصبحت عبئاً على السيرة النبوية، ورحم الله الإمام الذهبي عندما نقد (الشفا) للقاضي عياض رحمهما الله فقال: حشاه بالأحاديث المفتعلة عَمَلَ إمام لا نقد له في الحديث ولا ذوق، فالله يثيبه وينفع بشفائه وقد فعل، ونبينا صلى الله عليه وسلم غني بمدحه في التنزيل عن الأحاديث، وبما تواتر من الأخبار عن الآحاد، وبالآحاد النظيفة الأسانيد عن الواهيات، فلماذا التشبع يا قوم بالموضوعات فيتطرق إلينا مقال ذي الغل والحسد ولكن من لا يعلم معذور.
وحول سبل الاستفادة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة ورد الدعاوى الباطلة يقول السنيدي: القضايا والمواقف ذات الدلالات السلوكية في السيرة كثيرة وواسعة، ولعل عرضنا للسيرة ودراستنا لها الآن قد أبرز البعد السياسي والحربي بشكل كبير، وهما بعدان مهمان ولا شك إلا أن الأبعاد الأخرى هي بحاجة كذلك إلى الإبراز.
كما أن هناك خصائص وسمات صحبت مسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يعمل على تربية النفوس والأرواح، وإنجاز التدين في واقع الناس، فمن ذلك الواقعية والتدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، ومن ذلك التعامل المباشر مع الناس والزيارات النبوية للأسر والبيوت. وفي مواقف أخرى رأينا كيف استوعب النبي صلى الله عليه وسلم الجميع ووضّح الحقيقة أمام من استبدت به الظنون كما في موقف الأنصار من غنائم حنين.
ونلحظ بعد النظر والحكمة وملاحظته ما ينشأ عن الحادثة المتوقعة من آثار عندما يرد النبي صلى الله عليه وسلم طلب عمر رضي الله عنه قتل بعض المنافقين لئلا يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه، وطوال مسيرة جهاده ودعوته صلى الله عليه وسلم في ظل الظروف الصعبة التي مر بها صلى الله عليه وسلم لم يتخل عليه الصلاة والسلام عن التفاؤل والأمل بنصر الإسلام، وكثيرة هي القضايا التي ينبغي دراستها في السيرة ولكن ليست تحت ضغط واقع معين وظروف مستجدة.
ومن الخطأ التعامل مع الدعاوى الباطلة الحاقدة على الإسلام التي تتطاول على السنة والسيرة على أنها ظاهرة عابرة، بل هي جزء من مشروع سياسي ثقافي يرمي إلى طمس هويتنا بحكم أن السيرة النبوية هي موضوع نجتمع حوله، وبحكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الإسلام الذي يمثل هويتنا، بل ومعتقدنا الذي يجمعنا.
المنهج الحق
من جانبه يوضح الدكتور سعد بن صالح الطويل الآليات والضوابط الواجب توافرها في عملية التحقيق والتوثيق في الآتي:
- اعتماد ما ورد في القرآن الكريم عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وجعلها المرتكز الأساس لبناء السيرة.
- حصر الأحاديث المقبولة والمحققة حديثياً لكي تكمل ما ورد في القرآن الكريم.
- إذا حدث نقص في أي حادثة أو ظن بأن هناك معلومة غير موجودة في تلك الأخبار الواردة في القرآن أو الحديث فمن الممكن علاج هذا النقص بالرجوع إلى الأحاديث أو المرويات الضعيفة والتي لا تتعارض مع الأخبار المقبولة.
- البعد كل البعد عن الأحاديث والمرويات الموضوعة وعلى علماء الأمة التحذير منها بل وتحريم الرجوع إليها إن تطلب الأمر.
- لا بد من صياغة السيرة النبوية صياغة محكمة بعد جمع مادتها العلمية المقبولة تتضح فيها بلاغة اللغة العربية ويسمو فيها المنهج الأدبي لكتابة النص وتتركز فيها العبر المنيرة لدرب الأمة الإسلامية.
ويضيف د. الطويل: إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كما سبق أن قلت هي جزء من سنته، بل إن الباحث المدقق يستنتج أن السيرة هي السنة، لذلك فهي المنهج الحق الذي يضبط سلوك المسلم في الدعوة والعبادة والمعاملة، بل إن حياته صلى الله عليه وسلم رد عملي ومتجدد ضد الدعاوى الباطلة والحاقدة.
ولكن للأسف فإن جهل كثير من أبناء الأمة بسيرة نبيهم عليه السلام جعلهم ضعيفي الحجة أمام أية تهمة ينعق بها ناعق، رغم أن إيضاح حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي برز فيه كمال الرسول صلى الله عليه وسلم مهم جداً نستطيع به دحر كل حاقد ورد كل باطل، فقد كمل عليه الصلاة والسلام في سنته وسيرته تبليغ ما جاء به عن ربه سبحانه وتعالى من إيضاح لعقيدة التوحيد التي تهاوت أمامها جميع العقائد المنافية للتوحيد، بالإضافة إلى الأحكام والتشريعات والعبادات التي شيدت بها المجتمعات الإسلامية، كذلك كمل عليه السلام في دعوته الناس إلى هذا الدين، بل إن من أراد أن يحصر طرق دعوته ووسائلها لا يستطيع أن يفردها في سفر ضخم، كذلك كمل عليه السلام في جهاده ففي مدة لا تصل إلى عشر سنوات في المدينة المنورة قاد عليه الصلاة والسلام أكثر من عشر غزوات وأرسل أكثر من خمسين سرية لإعلاء أمر دين الله، وكذلك كمل عليه السلام في حياته الخاصة مع زوجاته وبناته وأبناء بناته ومعاملته لصحبه، وإعطاء كل ذي حق حقه من تربية وتعليم ومشاورة في الأمر، إلى سائر جوانب المعاملة الإسلامية في الحياة اليومية، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كمل في تعامله مع غير المسلمين باحترام إنسانيتهم والإحسان إليهم بالدعوة إلى الله وأداء حقوقهم المدنية، بل حتى الحربيون منهم كان الرسول يبذل النصح لهم، كذلك في تعامله صلى الله عليه وسلم مع القوى غير المسلمة نجد في سيرته وسنته من الحرص على أن يدخلوا دين الله واحترام العهود والمواثيق معهم، بل الحرص على أن يتعاون مع تلك القوى على نصر المظلوم ورد الظالم.
ولا شك أن إبراز كمال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هو الرد الناجع على من أراد الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، ويا ليت أهل القلم من المسلمين كتّاباً كانوا أو أدباء أو صحفيين يعودون إلى كمال تلك السيرة ويكثرون من الاستشهاد بها.
|