بقلم: د. محمد أبو بكر حميد
يعتبر علي أحمد باكثير (1910-1969م) واحدا من أنضج أبناء جيله.. الجيل الوسط الذي تلا جيل العقاد وطه حسين وينتمي إليه نجيب محفوظ والسحار وعادل كامل وبقية جماعة لجنة النشر للجامعيين في مصر، فقد كرس هذا الجيل جل جهوده للرواية وتفرغ لها معظمهم باستثناء باكثير الذي كان شاعرا في الأصل وشارك أبناء جيله في كتابة الرواية، فقد اشتهر في البداية بأعماله الروائية الأولى، وخصوصا بعدما أخرجت روايته الأولى (سلامة القس) إلى فيلم سينمائي غنائي قامت بدور البطولة فيه السيدة أم كلثوم. وازدادت شهرته بعد ذلك عند إصداره روايته التاريخية الشهيرة (وا إسلاماه) التي قررت دراستها على طلاب المدارس الثانوية في مصر وبعض البلاد العربية سنوات طويلة، ولقيت هاتان الروايتان شهرة لم تلق مثلهما بقية رواياته رغم أن بقية أعماله الروائية لا تقل في قيمتها الفنية والفكرية عن هاتين الروايتين. والأعمال الروائية الأخرى هي: (سيرة شجاع)، (الثائر الأحمر). وهما روايتان تاريخيتان وقد اعتبر المستشرق المجري المسلم عبدالكريم جرمانوس في رسالة بعث بها إلى باكثير رواية (الثائر الأحمر) واحدة من أخطر الروايات التاريخية في القرن العشرين وذلك لاستشرافها نهاية الشيوعية وفشل نظريتها في إسعاد الفقراء.
أما (ليلة النهر) فهي الرواية الوحيدة التي استمدت أحداثها وقصتها من الحياة المعاصرة. حيث صور فيها حياة الموسيقار الراحل فؤاد حلمي. وقد كتب باكثير رواية نشرها مسلسلة في مجلة القصة بعنوان (الفارس الجميل) وهي آخر أعماله الروائية لم تنشر في كتاب إلى الآن ولعلنا نفعل ذلك قريبا.
ويعتبر علي أحمد باكثير بهذه الأعمال رائدا للرواية التاريخية الإسلامية في الأدب العربي الحديث، إذ لم يسبقه أحد في كتابة الرواية التاريخية من منظور التصور الإسلامي. لقد حرص باكثير في رواياته على اختيار أهم المواقف في التاريخ العربي الإسلامي، وهي مواقف السقوط والنهوض، وقد أعانه على ذلك تمكنه من لغته العربية وثقافته الإنجليزية.
وبرغم ذلك النجاح الذي حققه في الرواية إلا أنه انصرف كلية إلى المسرح وأعطاه جل إنتاجه واهتمامه ولم يقلل تنوع ذلك الإنتاج من أصالته، فكان متفرداً بتعدد مواهبه ومات قبل أن يكمل ستين عاما مخلفا وراءه أكثر من سبعين كتابا، وتراثا مخطوطا ضخما في الشعر والنثر بحاجة للخروج إلى النور ليمد في عمر مؤلفه لأجيال طويلة قادمة.
الميلاد شرقا
ولد علي أحمد باكثير بعيدا عن العالم العربي في مدينة سورابايا بإندونيسيا سنة 1910هـ لواحدة من أعرق الأسر في حضرموت وأكثرها إيغالا في العروبة فأسرة باكثير ينتهي نسبها إلى كندة وهو نسب (تقف الفصاحة قديما وحديثا عنده) على حد تعبير المحبي صاحب (خلاصة الأثر) وقد قدمت هذه الأسرة الكثير من الشعراء والعلماء عبر العصور أعظمهم في الجاهلية امرؤ القيس الكندي وفي الإسلام ابن خلدون ويعقوب الكندي وقد افتخر باكثير في شعر الصبا بنسبه في عدة قصائد منها قوله:
من آل أبي كثير من سلالا
ت أقيال لهم مجد قدام
فهم في جاهليتهم ملوك
وفي الإسلام أعلام عظام
ويعدد أسماء أعلام هذه الأسرة حتى يقول مؤكدا عصاميته:
ولي بالانتماء إلى علاهم
مزيد علا - على أني عصام
وكان والده قد هاجر إلى إندونيسيا ضمن آلاف الحضارمة الذين سبقوه بعدة قرون ونشروا الإسلام في تلك البلاد بالقدوة الصالحة والمعاملة الحسنة ولم يملكوا زمام الاقتصاد والتجارة وحدها بل ملكوا معها قلوب أهل البلاد الأصليين وأفئدتهم ودخل الناس على أيديهم في دين الله أفواجا وسجلوا فتحا سلميا عظيما في تاريخ الفتوح الإسلامية من دون قتال، وقد أشار باكثير إلى هذه الحقيقة في إحدى قصائده الباكرة مخاطبا قومه يقول:
رحلتم تبتغون هناك رزقا
فعدتم تنشرون هناك دينا
ألا لله دركم رجالا
سعيتم للعلى متكاتفينا
وفي سن التاسعة عاد الفتى باكثير إلى حضرموت إذ كان من عادة الحضارم أن يرسلوا أولادهم إلى وطنهم الأصلي للتمكن من العربية وحفظ القرآن، وهناك في تلك البيئة العربية الأصيلة تكشفت مواهب باكثير منذ صباه، وأبدى نبوغاً في الشعر وعلوم العربية والفقه والحديث إذ بدأ نظم الشعر في سن الثالثة عشرة، وانفتح على الثقافة العربية الوافدة من مصر والشام وتأثر بفكر الثقافة الإسلامية السلفية المستنيرة التي يقودها السيد محمد رشيد رضا في مجلة (المنار) والسيد محب الدين الخطيب في مجلة (الفتح) وقد قاده هذا التأثر إلى البحث عن (العروة الوثقى) وقراءة كتابات كل من الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده كما تشهد بذلك أشعاره وآثاره في حضرموت وقد أدى هذا التطور في فكره إلى الاصطدام مع من أسماهم (بالجامدين) من الغلاة والصوفيين.
وعرف الشاب باكثير في هذه الفترة كداعية للإصلاح الاجتماعي والديني ورائد للتجديد في أساليب التعليم وعدو للجهل والتخلف ومن قصائده الحضرمية التي يضع فيها يده على أسباب تخلف الأمة الإسلامية كلها قوله:
كيف النهوض لأمة منكودة
منيت ديانتها بسوء تفهم
تلكم نواميس الرقى صريحة
نطقت بها آي الكتاب المحكم
فهم النبي وصحبه أسرارها
فتقدموا في المجد أي تقدم
وتوثبت بهم العزائم للعلى
حتى وطئن بهن جبين المرزم
ذاكم دم الإسلام يجري فيهم
دم عزة وتغلب وتكرم
وتولى باكثير وهو دون العشرين إدارة مدرسة النهضة العلمية بمدينة سيئون بحضرموت وجدد في نظام تدريسها ثم أصدر مجلة (التهذيب) مع نخبة من الأدباء الشباب سنة 1349هـ فصدرت لمدة عام وكانت المنبر الذي يطلق منه صوته الزاعق بالشعر والإصلاح.
وفي غضون عام 1932م تفاقمت الأمور حوله، وأحس أن البون شاسع بين فكره وفكر كبار قومه الذين ضاقوا به ذرعا، ثم كانت وفاة زوجه الشابة التي اختطفها الموت من بين يديه بعد مرض عضال فزاده هما بهم، فأحس الشاعر أن الأرض قد ضاقت عليه بما رحبت، وأنه لا مفر من الهجرة، فخرج حزينا باكيا ولسان حاله يقول:
ثلاث يعز الصبر عند حلولها
ويذهل عنها عقل كل لبيب
خروج اضطرار من بلاد تحبها
وفرقة إخوان وفقد حبيب
وقد يظن الكثير أن إنتاج باكثير الأدبي بدأ في مصر لأن الشاعر لم يتحدث عن إنتاجه في هذه المرحلة المبكرة من حياته. والحقيقة أنني لم أجد له شعرا كثيرا فحسب بل هناك العديد من الدراسات والمقالات التي كان يرسلها من حضرموت إلى مجلات عربية متفرقة وبعضها نشره في (التهذيب).
وقد جمعت ديوان شعره في حضرموت وصدر كتاب بعنوان وضعه الشاعر نفسه وهو (أزهار الربى في شعر الصبا) وهو يقارب ثلاثمائة صفحة من الحجم الكبير. ونعمل الآن على جمع إنتاجه النثري وإصداره في كتاب مما يدل على أن محصوله الأدبي في حضرموت ليس قليلا بل هو محصول فيه عمق ودراية لعلوم اللغة والعربية وتضلع بأدبها، وفيه فكر إسلامي مستنير مما يدل على أن باكثير كان على صلة بثمرات المطابع في القاهرة وبغداد ودمشق وتربطه مراسلات بقادة الفكر والأدب وقتها أمثال الأمير شكيب أرسلان ومحب الدين الخطيب ورشيد رضا وبعض الأدباء كما وجدنا في ملفات رسائله.
خطوة نحو الحلم
يمم باكثير وجهه بعد خروجه من حضرموت شطر عدن ولم تكن عدن بالنسبة له إلا محطة عبور، فإن حلمه كما عرفناه من خلال أشعاره في حضرموت هو التوجه إلى مصر للالتقاء بأدبائها والاستزادة من علمها، ولكن لا بأس من الذهاب إلى جاوا لزيارة والدته قبل أن يواصل رحلته إلى مصر كما صور ذلك في قصيدة له بحضرموت بتاريخ 28 ذي القعدة 1344هـ يقول فيها وهو على فراش المرض:
سأرحل من بلاد ضقت فيها
تلازمني بها أبدا شعوب
فأجتاز البحار لأرض (جاوا)
إلى حيث المقام بها يطيب
وأعبر (مصر) حيث العلم حيث
الحضارة حيث يحترم الأديب
وحيث الشعر خفاق لواه
وحيث الضاد مرعاها خصيب
وحيث النيل يجري في اطراد
يسر القلب منظره المهيب
وأقام باكثير في عدن عام 1932م عدة شهور اتصل فيها اتصالا حميما بالحياة الأدبية وأرسل عدة قصائد إلى مصر نشرت في (الفتح) و(الرسالة) و(المنار) ثم غادرها إلى الحجاز حيث أقام فيها قرابة عام ليغادرها إلى حلمه الكبير مصر في أوائل سنة 1934م.
اكتشافه الفن المسرحي
وشعر باكثير في عدن والحجاز الذي وجدناه في ملفاته الخاصة لا يقل عن ديوان شعره في حضرموت من حيث الكم ولكنه أكثر جودة وأصالة مضافا إليه مطولته الإسلامية التي نظمها في مكة قبيل سفره إلى المدينة المنورة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 1352هـ واستعراض أحوال العالم الإسلامي وسماها (نظام البردة) وتقع في 260 بيتا عارض بها البوصيري وشوقي.
وإلى جانب ذلك تشكل مرحلة الحجاز منعطفا فنيا هاما في حياته، فقد اكتشف في الحجاز لأول مرة في حياته الشعر المسرحي. فقد كان شوقي شاعره الأثير في حضرموت ولكنه لم يعلم أن له شعرا مسرحيا إلا عند وصوله الحجاز، بل ما كان يظن أن الشعر يمكن أن يكون على شكل قصة وتدور فيه أحداث ومساجلات وحوار وقد وصف باكثير هذا الاكتشاف في كتابه (محاضرات في فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية). وقد كانت نتيجة هذا الاكتشاف أن كتب باكثير أثناء إقامته بالطائف أول مسرحية شعرية له بل أول مسرحية له على الإطلاق وهي بعنوان (همام في بلاد الأحقاف) التي نشرتها المطبعة السلفية قبل وصوله مصر بسنة. وسار فيها على درب شوقي وإن كان موضوعها اجتماعيا معاصرا من واقع الحياة في حضرموت، وقصة المسرحية تعكس معاناة باكثير في حضرموت، ودعوته للإصلاح كما أنها تصور حزنه العميق على فقدان زوجه التي أورثه موتها حزنا مقيما رافقه طول العمر.
من شوقي إلى شكسبير
وصل باكثير إلى القاهرة سنة 1934م قادما من الحجاز بتعريف السيد محمد رشيد رضا صاحب (المنار) الذي كان وراء فكرة قدومه مصر فقد وجدت اسم السيد رشيد رضا (عنوان إقامة) على جواز السفر الذي دخل به باكثير مصر وتشهد بذلك أيضا خطابات رشيد رضا التي سننشرها قريبا.
وكان من المتوقع له أن يتجه لقسم اللغة العربية أو إلى الأزهر للدراسات الإسلامية ولكنه التحق بقسم اللغة الإنجليزية وقد برر ذلك في قوله بأنه وصل إلى مصر وقد استوعب التراث العربي قديمه وحديثه، واكتفى في حضرموت بدراسة العلوم الإسلامية، ولكي يحقق طموحه في أن يكون شاعرا كبيرا كان لابد له أن يطلع على ما في الثقافات الأجنبية من أدب، ورأى أن اللغة الإنجليزية ستكون منفذا له إلى اللغات والثقافات الأخرى. وبالفعل فقد أدت اللغة الإنجليزية إلى انقلاب جذري في اتجاهات باكثير الأدبية كما اعترف بذلك في كتابه (فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية) إذ اجتذبه شعر شكسبير وصرفه عن شوقي الذي كان مثله الأعلى عندما كتب مسرحية (همام..) ومن باب الإعجاب بشعر شكسبير فهم باكثير أسرار الفن المسرحي واجتذبه هذا الاكتشاف الجديد إلى درجة أنه عدل من اتجاهه في أن يكون شاعراً كبيرا كشوقي إلى إعداد نفسه ليكون كاتباً مسرحياً مثل شكسبير وهو ما كتبه في رسائله الخاصة إلى أخيه في حضرموت وكان من جراء هذا التعديل أن أهمل باكثير نشر شعره وإن ظل ينظم الشعر طوال حياته لكنه لم يهتم بجمعه في دواوين إلى أن مات.
لقد شغل باكثير بفن المسرح وفتن بشكسبير وشعره المرسل المنطلق لدرجة أنه بدأ في ترجمة مسرحية (الليلة الثانية عشرة) ونشر أجزاء منها في مجلة الرسالة (العددان 137، 145- 1936) وهو في السنة الثانية بالجامعة، ولكن ترجمة شكسبير إلى الشعر العربي المقفى لم ترق له، ورأى أنها تجافي روح شكسبير الشعرية ثم كان ما حدث له في مقاعد الدرس مع أستاذه الإنجليزي الذي قام متبجحا: إن اللغة الإنجليزية هي اللغة الوحيدة التي تتسع للأشكال الجديدة، وإن وسيلة التعبير بالشعر الحر أو المرسل المنطلق لا توجد بغيرها من اللغات، ومنها لغتكم العربية. فغضب الشاعر الشاب باكثير غيرة على لغته العربية، فقال لأستاذه: إن اللغة العربية تتسع لكل أشكال التعبير، وإنه من الممكن كتابة الشعر المرسل بها، فسخر منه أستاذه وقال له: (كلام فارغ)، وتحديا لهذا الأستاذ الصلف ذهب الطالب باكثير وأمسك مسرحية (روميو وجولييت) التي كانت مقررة عليه في ذلك العام وبدأ في ترجمتها شعرا مرسلا منطلقا، واستمر فيها حتى أتمها، وكان ذلك سنة 1936م (باكثير، فن المسرحية) فكانت تجربة رائدة ليس في ترجمة مسرح شكسبير إلى العربية فحسب بل أصبحت فيما بعد التجربة الأم فيما سمي بعد ذلك بالشعر الحر.
التجربة الرائدة
ويروي باكثير قصة اكتشافه لهذا النمط الشعري الجديد للمسرح في مقدمة ترجمته لروميو وجولييت فيقول: اتفق ان جاء الوزن في بحر المتقارب دون أن أعي ما ينطوي عليه ذلك من دلالة. ثم مضيت في عملي مرسلا نفسي على سجيتها من اختيار ما يناسب المقام من البحور والأوزان، فاكتشفت بعد لأي أن البحور التي تصلح لهذا الضرب الجديد من الشعر هي تلك التي كانت تتكون من تفعيلة واحدة مكررة كالكامل والرجز والمتقارب والمتدارك والرمل، لا تلك التي تتكون من تفعيلتين مختلفتين كالسريع والخفيف، البسيط والطويل فإنها لا تصلح).
ويرى الدكتور عز الدين إسماعيل أن باكثير قد تجاوز من ذلك ما عرفه شعراء (مدرسة الديوان) في الثلاثينات فلم يكتف بالتخلص من رتابة القافية المتكررة، بل حطم البيت الشعري نفسه واستبدلها باصطلاح وحدة التفعيلة (مجلة المسرح عدد 70، 1970م) ومن خلال ذلك اتضح لباكثير أنه ليس كل الأوزان الشعرية تصلح لهذا الشكل الجديد في الأداء الدرامي، وأن الأصلح فقط هو ما تجانست تفعيلاته، وقد أدرك باكثير أن ذلك يتم دون الالتزام بعدد ثابت من التفعيلات، لأن الجملة الحوارية قد تطول وقد تقصر حسب الموقف.
وعلى هذا الأساس أدخل باكثير فكرة الجملة الشعرية المنطلقة بدلاً للبيت الشعري المغلق، نتيجة لرفضه أن يكون الشعر المقفى لغة صالحة للمسرح. ويبرر عدم صلاحية الشعر المقفى للمسرح بأنه يستند إلى البيت الكامل كوحدة مستقلة عن سابقه وعن لاحقه، فذلك يجزىء الوحدة التعبيرية ويقطعها إلى وحدات متساوية مستقل بعضها عن بعض، دون مراعاة لاختلاف الجمل المسرحية في الطول والقصر.
ويعلل باكثير نشأة ذلك بأن الجملة المسرحية التي تكون أطول من أن يستوعبها بيت واحد تنشطر في بيتين تفصل القافية بينهما بحيث لا يمكن للمستمع أن يغفل عنه ونفس الشيء في الجملة المسرحية- كما يرى باكثير- التي تكون أقصر من أن تشغل بيتاً كاملاً، فإما أن يربطها المؤلف بجملة مسرحية أخرى أو بجزء من جملة مسرحية ثانية أو يكمل البيت بلجوئه للحشو.
ويفعل باكثير ذلك على طريقة حل قضية الشعر في المسرح، ولعل هذا يعود إلى عدم اقتناعه بما فعله أحمد شوقي في مسرحياته الشعرية، من تنويع الوزن عندما ينتقل الكلام من شخصية لأخرى، وشوقي يلجأ لتغيير الوزن في مثل هذه الحال لكي يحول دون علو نبرة الشعر على الروح الدرامية في العمل المسرحي.
أما الشعر المرسل المنطلق فهو يتميز بنبرته الخافتة على المسرح حيث لا تجعل المشاهد العادي يلحظ أنه شعر، كما أنه يمكن للمؤلف في المواضع المناسبة أن يغير الوزن شريطة أن يحرص على الدقة والإتقان، لأنه عندما تنعدم المبررات الكافية لتغير الأوزان، فإن ذلك يتحول إلى خطأ شبيه بالذي وقع فيه شوقي والمسرح الشعري العربي المقفى.
ويرى بعض النقاد في دراساتهم لترجمة باكثير لروميو وجوليت، أن باكثير وقع في ذلك النوع من الخطأ أثناء ترجمته لبعض فصول المسرحية بالشعر المرسل - الذي يعتبره محاولة جادة للتخلص مما وقع فيه مسرحنا الشعري التقليدي، ويدعم ملاحظته هذه بما رآه إبراهيم المازني من قبله، وهو أن التنوع في الوزن الماثل في الترجمة لم يكن ملائماً، بدليل أن المازني في مقدمته للمسرحية عاد ليبدي ارتياحه للوزن الذي تخيره باكثير في تأليفه لمسرحية (اخناتون ونفرتيتي) - فيما بعد - وتلافى باكثير ذلك الخطأ فلم يكرره. وليس من تفسير يراه لذلك إلا التزام باكثير في (اخناتون ونفرتيتي) لوزن واحد، واستفادته مما وقع فيه عند ترجمته (لروميو وجوليت) ومع ذلك فقد اعتبرت هذه الترجمة أول عمل شعري كامل يترجم إلى اللغة العربية في شعر مرسل منطلق.
تجربة (اخناتون ونفرتيتي)
ظهر باكثير على الناس في سنة 1940م بمسرحية من تأليفه بالشعر الحر التزم فيها بحراً واحداً وهو بحر المتدارك، وهي مسرحية (اخناتون ونفرتيتي) التي اعتبرها كثير من النقاد- وفي مقدمتهم د. عز الدين إسماعيل- المسرحية الرائدة في الشعر الحر الدرامي وغير الدرامي (فحركة الشعر الجديد التي بدأت منذ أواخر الأربعينيات في العراق والتي امتدت فيما بعد إلى سائر الأقطار العربية، وما زالت حتى اليوم تنمو وتتطور، لم تحدث في شكل القصيدة من البداية إلا ما أحدثه باكثير من كسر وحدة البيت وطرح القافية بصورتها القديمة، واتخاذ التفعيلة أساساً للبناء الموسيقي (د. عز الدين اسماعيل، مجلة المسرح، السابق).
ولم يلتفت لهذه التجربة في حينها إلا إبراهيم المازني، الذي استبشر بها، واستقبلها فأحسن استقبالها في طبعتها الأولى سنة 1940م بقوله: إن كتاب الصديق أبي كثير تحفة جديرة بإكبار الأدباء والمؤرخين، وبشرى أيضاً بظهور كوكب جديد في عالم الشعر). (مقدمة المسرحية).
وهكذا نجد أن هذه المسرحية اعتبرت بحق ثورة حقيقية على المسرح الشعري التقليدي، فلقد تحول فيها المسرح الشعري على يد باكثير من مسرح الشعر إلى شعر المسرح، فكانت (اخناتون ونفرتيتي) حلاً لمشكلة الانفصام بين الحدث الدرامي واللغة الشعرية.
وقد ظل المسرح الشعري العربي يعاني كثيراً من هذه المشكلة قبل باكثير، الذي جعل اللغة الشعرية تخدم الموقف ولا تطغى عليه، وقد اعتبر صلاح عبد الصبور ذلك جرأة من باكثير حيث كتب يقول: (إن معظم شعرائنا لم يجرؤوا على الانتقال بين التفعيلات المختلفة من البيت الواحد، فذلك أمر بعيد القربى عن الأذن العربية، ولعل باكثير من الجيل السابق كان أكثر من جيلنا طموحاً وأشد جرأة)، (مجلة المسرح عدد 70 - 1970م).
باكثير والمسرح الغنائي
خرج باكثير من تجربته مع المسرح الشعري إلى القول بأن النثر هو اللغة الطبيعية للمسرح، ورأى أن الشعر لا ينبغي أن يكتب به غير المسرحية الغنائية وهي (الأوبرا).
وقد كتب باكثير مسرحية (قصر الهودج) الغنائية بعد كتابة مسرحية (اخناتون ونفرتيتي) بعدة سنوات تخللتها عدة مسرحيات نثرية.
وبعد أوبرا (قصر الهودج) بسنوات يكتب باكثير أوبريت (شادية الإسلام) أو الشيماء، وقد جعل باكثير الحوار النثري مجرد وسيلة تمهيدية توصل إلى المواقف الدرامية شعراً، التي هي بمثابة المحاور المعنوية الرئيسية أو الجوهرية للقصة والتي تتميز باصطناعها الشعر أداة تعبير - بما فيها من تركيز وتكثيف. وتجيء هذه الأوبريت لتدلل على غنى اللغة العربية وقدرتها.
وقد رأى باكثير أن الأوبريت العربية تكتب باللهجات المحلية. فغاظه ذلك وهو المتحمس والمؤمن بطاقات لغته، فقد كان يرى أن اللغة العربية أكبر وأوسع من الأدب العربي وأنه لا بد للأدباء العرب أن يستغلوا الطاقات الكامنة في لغتهم.. بينما يرى أن الأدب الإنجليزي أوسع وأكبر من اللغة الإنجليزية (حديث مع فاروق شوشة- تلفزيون الكويت أبريل 1969م).
وقد تحولت (شادية الإسلام) إلى فيلم سينمائي بعد وفاته في حين كان إهمالها في حياته غصة، كتب عنها يحيى حقي يقول متألماً: (لا بد لي هنا، وفاء لحقه على أن أشيد بعمل مسرحي لم يلتفت إليه النقاد مع الأسف وقد شهدت مولده وانتفعت به، هذا العمل هو أوبريت (شادية الإسلام) الذي وئد ظلماً بتجاهل المسرح والتلفزيون والإذاعة لها وهي تجري صارخة: يا عالم! من يدلني على أوبريت أنها أفضل عمل يقدم للجمهور..)، (جريدة التعاون 16-11- 1969م).
ومع أن باكثير قد انغمس بعد ترجمة (إخناتون ونفرتيتي) في كتابه المسرحية النثرية إلا أننا نجده بعد ما يقرب من عشرين عاماً يعاوده الحنين إلى الشعر الحر في أخريات أيامه إذ عثرت بين أوراقه على مسرحية (الوطن الأكبر) التي كان قد نشرها نثراً في الثلاثينيات بعنوان (إبراهيم باشا) ثم أعاد صياغتها بالشعر التفعيلي في أواخر الستينيات.
وقد طبعت هذه المسرحية مؤخراً مع أعمال أخرى وجدناها في مكتبته بمنزله في القاهرة، وصدرت عن مكتبة مصر سنة 1992م آخر مسرحيات باكثير الشعرية المخطوطة فهي مسرحية بعنوان: (عاشق من حضرموت) وهي من وحي زيارته الأخيرة لوطنه سنة 1968م ونعمل على إعدادها للنشر قريباً إن شاء الله.
وما عدا هذه المسرحيات فقد كانت أعماله نثراً لأنه يعتقد أن لغة النثر هي أفضل الوسائل لمخاطبة الجماهير ذات المستويات المختلفة، وأنه أحرى بالكاتب صاحب الرسالة أن يتخذها وسيلته في التعبير (باكثير- فن المسرحية).
ومع ذلك فقد ظلت ثورة باكثير في الشعر الريادة الأم للشعر الحر التي طال الجدل حولها وجحد فيها حقه في حياته ثم أنصفه نقاد كبار أمثال د. عز الدين اسماعيل ود. محمد عبد المنعم خاطر ود. عبد القادر القط وقبلهم جميعاً اعترف بدر شاكر السياب نفسه لباكثير بهذه الريادة في مقال كتبه في مجلة الآداب البيروتية (عدد يونيو 1954م ص 69) يفض به الجدل، يقول فيه: (وإذا تحرينا الواقع وجدنا أن الأستاذ علي أحمد باكثير هو أول من كتب على طريقة الشعر الحر في ترجمته لرواية (روميو وجوليت) لشكسبير التي صدرت في كانون الثاني عام 1947م بعد أن ظلت تنتظر النشر عشر سنوات)!!
وفي هذا جواب كاف على الذين ينسبون الريادة للسياب!
باكثير وقضايا العرب والمسلمين
تخرج باكثير من الجامعة سنة 1939م وحصل على دبلوم معهد المعلمين سنة 1940م وعمل مدرساً للغة الإنجليزية لمدة أربعة عشر عاماً، سبعاً في المنصورة وسبعاً في القاهرة، وتربع في هذه الفترة على عرشه المسرحي واحتل مركز الصدارة بين أدباء مصر والعالم العربي وانشغل بشهرته في التأليف المسرحي والرواية وانصرف عن طبع شعره في دواوين وإن لم يتوقف عن نظم الشعر ونشره في المجلات والصحف.
وظهرت مسرحيات باكثير لهيباً يشتعل في ليل الأربعينيات جعلت منه عدواً عنيداً للاستعمار ومفنداً دعاوى الصهيونية ومن يقف وراءها من الدول الكبرى، إذ كان باكثير في هذه الفترة من أغزر أدباء جيله إنتاجاً وقد شهد رفيق كفاحه الفني الأستاذ نجيب محفوظ الذي قال (حين أعود بذاكرتي إلى سنوات الأربعينيات أجد أن علي أحمد باكثير وعبد الحميد جودة السحار لم يداخلهما شك في قيمة إنتاجهما ووجوب الاستمرار فيه، فقد كانا ممتلئين بالتفاؤل، أما (الآخرون) وأنا منهم فقد كنا نعاني من أزمة نفسية غريبة طابعها التشاؤم الشديد، - عن كتاب (أدباء يتحدثون) للأستاذ فؤاد دوارة - وهكذا أخذت قضايا التحرر في العالم العربي والإسلامي نصيب الأسد من تمثيلياته القصيرة صحيفتي (الدعوة) و(الإخوان المسلمون) التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مسرحيات (دم الشهداء)، (في سبيل إسرائيل)، (ذكرى من الشرق الأقصى)، (أكبر من العرش)، (الجولة الثانية)، (نصير الإسلام)، (دولة تتسول)، (في بلاد العم سام)، (الهلال الخصيب)، (في جحيم القتال)، (رؤيا بونابرت)، والعديد منها التي قاربت الستين مسرحية جمع منها عشراً في كتابه (مسرح السياسة) والبقية ما زالت مبعثرة في بطون الصحف العربية ونعمل الآن على جمعها وإصدارها في مجلد كبير.
ولهذا نجد قضايا التحرر في العالم العربي والإسلامي من أوسع دوائر اهتمامه، فقد كتب مسرحية (عودة الفردوس) التي هاجم فيها الاستعمار الهولندي وتعرض فيها لكفاح شعب إندونيسيا ضده. وكان من عواقبها عليه أن منع من دخول أندونيسيا حين هم بزيارتها ذات مرة، وكانت مسرحية (مسمار جحا) التي رمز بها إلى الاحتلال الإنجليزي لمصر وقناة السويس، وقد استعار لها قصة جحا ومسماره المشهور حيث يرمز فيها جحا إلى الاستعمار، وأن ذلك المشتري المخدوع يمثل شعب مصر.
وقد روى الأستاذ زكي طليمات في مقدمة الطبعة الأولى للمسرحية أنه اقترح أن لا تمثل في حينها لما تحمله من صرخة واضحة في وجه الاستعمار ثم رأى أن يغير العنوان إلى جحا وابنه إشفاقاً منه بالمؤلف إلا أن باكثير أصر على تحمل مسؤولية عمله كاملة.
وفي سنة 1951م أصدر باكثير مسرحيته (إمبراطورية في المزاد) التي قصد بها الاستعمار البريطاني المؤيد للصهيونية، ودعا فيها إلى تكتل دول العالم الثالث، ورأى أن قيام كتلة ثالثة على الساحة العالمية فيها إنصاف لدول العالم الثالث بحيث يبرز بوزنه الحقيقي في التأثير على موازين القوى ويمكن اعتبار المسرحية دعوة لما سمي بعد ذلك (بالحياد الإيجابي).
وتخيل انعقاد مؤتمر في دلهي لزعماء العالم الثالث. وقد تحقق هذا المؤتمر بانعقاد مؤتمر باندونج بعد كتابة مسرحيته بثلاث سنوات.
ومسرحية (الفرعون الموعود) التي استوحاها باكثير من أسطورة (الشقيقان) التي وجدت مكتوبة باللغة الهيراطيقية على ورقة بردي في المتحف البريطاني.
وقد كتبها سنة 1950م ومضمونها يكشف عن الأوضاع السياسية الفاسدة في مصر فيظهر لنا (فرعون) غارقاً في الفساد. وعندما نصحه الكاهن (عامو) بالكف عن الظلم طرده، إلا أن الكاهن عاد ليتنبأ بمولد الفرعون الموعود الذي يخلص الشعب من آثامه.
وقد كانت - أيضاً - مسرحية (سر شهرزاد) التي استوحاها من الأسطورة العربية المشهورة (ألف ليلة وليلة) حيث فسرها تفسيراً نفسياً وبنى عقدتها على العجز الجنسي الذي يعاني منه شهريار، واعتمد المؤلف على التحليل النفسي في البناء الدرامي للمسرحية وبهذا اتجه باكثير بالأسطورة منحى جديداً حين جعل زوجة شهريار الأولى - في المسرحية - لا تخونه خيانة حقيقية مع العبد بل هي تمثل عليه مع عبد خصي لتستثيره وهذا ما جعل المسرحية خاضعة لشتى التفاسير.
أما في الأسطورة فزوجته تخونه خيانة حقيقية. مما يسد أمامنا أي باب لتأويل فهم آخر لنا ورد في تلك الناحية وقد اعتبر محمد مندور وشوقي ضيف ومحمد القصاص مسرحية باكثير هذه خير مسرحية كتبت باللغة العربية تعالج أسطورة شهرزاد، فهي أكثر حركة درامية عن غيرها عند الحكيم وعزيز أباظة.
وتأثر باكثير بما قام به عبد الكريم قاسم من ذبح القوميين وسحلهم وتعليق جثثهم بالآلاف في العراق، فكتب مسرحية (الزعيم الأوحد) في صيف سنة 1959م، وتخيل باكثير فيها نهاية عبد الكريم قاسم قبل وقوع هذه النهاية، وقد أراد أن يبين فيها خطر الشعوبية والشيوعية على الأمة العربية.
ولقد كتب في مقدمة المسرحية بعد ذلك يقول: (ليرى القراء ويعجبوا كيف أن الأقدار قد اختارت - الزعيم الأوحد - من عالم الواقع نفس النهاية التي رسمتها له في المسرحية منذ أكثر من ثلاثة أعوام مع اختلاف يسير للتفرقة بين المأساة والملهاة إن كان بينهما فرق)!
باكثير وقضية فلسطين
وهكذا نجد حسه السياسي يقوده إلى التنبؤ بنكبة فلسطين قبل حدوثها بثلاث سنوات وتمثل هذا في مسرحيته (شيلوك الجديد) التي كتبها سنة 1944م تنبأ فيها بأن الحل الوحيد أمام العرب هو فرض الحصار الاقتصادي على هذه الدولة الدخيلة حتى تختنق وتموت.
ويعلل باكثير عدم تحقق هذا الجزء من نبوءته بقوله: (.. لأن الحصار الاقتصادي الذي فرضه العرب لم يكن محكماً كما ينبغي، إذ توجد فيه فجوات من حدود بعض الدول العربية التي يأتمر حكامها بأوامر الاستعمار والصهيونية)، (باكثير، فن المسرحية).
وقد استعار باكثير موضوع مسرحيته من مسرحية شكسبير (تاجر البندقية) حيث نجح من خلالها الكاتب أن يفضح دعوى الصهيونيين، كما فضح شكسبير جشع اليهودي شايلوك، على أنه يجدر بنا أن نذكر أن باكثير أعطى لقضية فلسطين اهتماماً بالغاً لاعتباره إياها قضية العرب والمسلمين في كل مكان. وكان الناقد سيد قطب أول من تنبه لأهمية الرؤية السياسية في مسرح باكثير وكتب مقالاً في مجلة (الرسالة) في 21 يناير 1946م عدد 655 يقول فيه: (مسرحية - شيلوك الجديد - عمل أدبي يجيء في إبانه ليلقي على قضية فلسطين ضوءًا منيرًا كشافاً وليصورها على حقيقتها التاريخية والواقعية وليرسم الحل الناجح لها، وهو الحل الذي اهتدت إليه الجامعة العربية بعد شهر من ظهور المسرحية وحسب المؤلف - وهو فرد - أن يلتقي في تفكيره مع أبرز رجال الجامعة العربية في حل قضية فلسطين).
وهكذا وبقيت فلسطين في مقدمة قضايا مسرح باكثير السياسي حتى وفاته فقد كتب بعد ذلك مسرحيات (شعب الله المختار) و(إله إسرائيل) ثم (التوراة الضائعة) التي كانت آخر ما نشر له في حياته فإذا ما أضفنا إليها رصيده الضخم من المسرحيات القصيرة التي تزيد على السبعين التي يتناول معظمها قضايا العرب وفلسطين في المجتمع الدولي سنجد باكثير يقف بلا منازع رائداً للمسرح السياسي في أدبنا الحديث، فلم يهتم كتاب المسرح في عصره بالقضايا العربية والإسلامية الكبرى اهتمام باكثير.
المسرحية التاريخية
وتعتبر مسرحية (دار ابن لقمان) من أمتع ما كتب باكثير في المسرح التاريخي، وقد كتب هذه المسرحية استجابة لمسابقة أقامها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، والعلوم الاجتماعية، لتخليد ذكرى انتصار الشعب على حملة لويس التاسع سنة 1250م وقد حصل باكثير على الجائزة الثانية في سنة 1960م.
وتعرض في تلك المسرحية لهجوم الصليبيين على مصر بقيادة لويس التاسع وكيف تصدى لهم المماليك والقادة المصريون بقيادة فخر الدين وشجرة الدر، وأسرهم للإمبراطور لويس التاسع وقائد الحملة في دار ابن لقمان، وقد تجلى بروعة هذه المسرحية دور الشعب وقادته معاً في الدفاع عن الوطن.
ولقد اعتبر بعض النقاد هذه المسرحية من أمتع ما كتب باكثير في المسرح التاريخي.
وبعد هزيمة سنة 1967م المدمرة كتب باكثير ثلاثيته التاريخية عن مقاومة الشعب المصري الباسلة للغزو الفرنسي وإقامة نابليون في مصر في ثلاث مسرحيات صدرت الأولى منها في حياته بعنوان (الدودة والثعبان) ثم عثرنا على الأخريين في مكتبته بعد وفاته، فصدرتا في العام الماضي عن مكتبة مصر، وهما: (أحلام نابليون) و(مأساة زينب).
وعلى الرغم من أن معظم أعمال باكثير تلجأ إلى التاريخ والأسطورة كشكل للتعبير عن الرمز السياسي والفكري - كما رأينا - فإن له عدداً كبيراً من المسرحيات السياسية المستمدة من واقع الأحداث المعاصرة. فليس من المبالغة في شيء أن نقول: إنه لم يشغل أديب من معاصري باكثير بقضايا الأمة العربية الإسلامية والمحن التي مرت بها منذ الحرب العالمية الثانية حتى أواخر الستينيات، كما شغل باكثير وسخر لها قلمه وفنه.
وعلى أي حال فإن باكثير في كافة الأشكال الفنية ينطلق من منطلق التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة.
المهم أن باكثير كان يعيش في قلب أمته بل كان قلبها النابض في كل ما كتب هماً وحلماً وسعادة وشقاء على نحو ما نجد من مطولته الإسلامية الأولى نظام البردة التي نظمها في الحجاز قبل سفره إلى مصر كيف وهو الذي قال في صدر شبابه وهو يحمل حب أمته وهمومها في قلبه:
يا ويح قلبي بحب لا هدوء له
يجيش بالهم كالبركان بالحمم
يئن من ثقل الآمال تبهظه!
إن الهموم رسالات من الهمم
أرنو إلى (يعرب) والدهر يعرضها
رواية البؤس بعد العز والنعم
تقاسمتها شعوب الغرب تدفعها
إلى المهالك سوق الشاء والنعم
ولقد اتضح المنهج الإسلامي في كتابة المسرحيات عند باكثير منذ كتابة أول مسرحية له في مصر، وهي (إخناتون ونفرتيتي) التي صدرها بقوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (164) سورة النساء. إذ فسر باكثير حياة هذا الملك الفرعوني الذي دعا إلى التوحيد وعبادة إله واحد في ضوء هذه الآية، وضمن مسرحيته رؤية جديدة لتاريخ حياة هذا الفرعون تتفق مع التصور الإسلامي، وقد جعل باكثير من تصدير مسرحياته بآيات من القرآن الكريم تتفق مع مضمون المسرحية تقليداً مميزاً لكل أعماله، إذ نجد أن محور المسرحية الفكري يدور حول معاني الآية الكريمة التي تصدرت المسرحية سواء كانت المسرحية من التاريخ الإسلامي أو غير الإسلامي أو الحياة المعاصرة. فباكثير يرى أن الأديب العربي الحق يجب أن يعكس رؤية حضارته للإنسان والكون والحياة في كل ما يكتب، وليس بالضرورة أن تكون الرؤية الإسلامية منحصرة في الموضوعات العربية أو الإسلامية فحسب بل يرى أنها ربما تكون أكثر وضوحاً وتأثيراً في الموضوعات البعيدة عن الإسلام والمسلمين، وذات صلة حميمة بثقافات الشعوب والأمم الأخرى، ومن واقع هذا المنهج كتب باكثير مسرحيات عن موضوعات معروفة عالمياً وذات مكانة في الثقافة الغربية المعاصرة مثل أسطورتي (أوديب) و(فاوست)، (باكثير: حديث لإذاعة الكويت أبريل 1969م) فكان ما كتبه باكثير في مسرحيته (مأساة أوديب) و(فاوست الجديد) صياغة إسلامية جديدة لأسطورة وثنية وأسطورة مسيحية من منظور المنهج نفسه الذي بدأه في (إخناتون ونفرتيتي) وغيرهما من المسرحيات الأخرى التي استمدها من التاريخ الفرعوني.
ووجهة نظر باكثير كأديب صاحب رسالة في تناول موضوعات بعيدة الصلة بتاريخ العرب والمسلمين، هي أن هذه الموضوعات قد تناولتها أقلام عديدة في ثقافات ولغات مختلفة، وأصبحت معروفة عالمياً، وبالتالي فإنه عندما يأتي الكاتب العربي ويتخذ هذه الموضوعات قوالب جديدة يصب فيها تصوره من خلال إعادة صياغتها، فإنه يسهل على القارىء أو المشاهد غير العربي أو المسلم استيعابها وفهمها لأن الهيكل العام للمسرحية معروف لديه، ولن يلقى صعوبة في فهمه وبالتالي فإنه عندما تؤثر فيه بصياغتها الجديدة فإنما يتأثر بالمضمون الجديد الذي عبرت عنه وحملته إليه بطريقة غير مباشرة، فترسخ في ذهنه التصورات الإسلامية دون أن يسمع في المسرحية كلمة إسلام أو عرب وهذا المنهج من أفضل الوسائل التي تعين الكاتب الداعية في التعبير عن رسالته من دون أن يكون خطيباً أو تقريرياً بل يظهر في المقام الأول فناناً ذكياً صاحب رسالة وهو مضمون الكلمة التي ألقاها في مهرجان الأدباء العرب السابع المنعقد في بغداد في أبريل سنة 1969م بعنوان (دور الأديب العربي في مواجهة الصهيونية والاستعمار).
وهكذا كان باكثير - رحمه الله - في كل المسرحيات التي استمدها من الأساطير الفرعونية أو الإغريقية أو الثقافة الغربية الحديثة لأنه يراها منفذاً للتأثير إسلامياً في ثقافة الغرب، لأنهم لن يتقبلوا معتقداتنا ولا تصوراتنا إذا ما قدمناها لهم في أوان عربية أو إسلامية. وبالتالي تكون كتابة المسرحيات بهذا المنهج الباكثيري أشبه بمن يقدم طعاماً إسلامياً في أطباق غربية.
فالناس يأكلون الطعام ولا يأكلون الأطباق! فإذا تأثروا وأعجبوا فإنما يتأثرون ويعجبون بالطعام لا بالأطباق!
ولهذا كله ستظل مسرحيات باكثير المستمدة من موضوعات غير إسلامية من أنجح مسرحيات باكثير التي تناولت القضايا الفكرية الإسلامية الكبرى، وستكون همزة الوصل بيننا وبين الثقافات الأخرى بكل أبعادها الإنسانية.
وقد عبر توفيق الحكيم عن نفس الرؤية في كتابيه (تحت شمس الفكر) و(فن الأدب).
مات حزيناً
ولعل أضخم عمل أدبي كماً وكيفاً كتبه باكثير هو (ملحمة عمر) الكبرى التي ختم بها حياته، وهي عمل درامي يقع في تسعة عشر جزءًا يصور الحياة الإسلامية من كافة جوانبها في عصر عمر بن الخطاب وترسم صورة رائعة للدولة الإسلامية والشخصية الإسلامية كما يجب أن تكون ليهتدي بها المسلمون في كل مكان وهم يخوضون مرحلة البناء.. بناء الذات في محاولة للنهوض من الكبوة التي يعيشونها وقد منح باكثير منحة تفرغ من الدولة لمدة سنتين 1962- 1964م لكتابة هذا العمل العظيم وهو الذي رشحه له العقاد فكان خير ما ختم به باكثير حياته. وقد مات باكثير في العاشر من نوفمبر 1969م مقهوراً وفي نفسه حسرات حين وجد نفسه في السنوات الأخيرة من حياته يستبعد عن دوائر الضوء وعن عرشه المسرحي الذي تربع عليه منذ أواخر الأربعينيات وحتى أواخر الخمسينيات من خلال العروض الجماهيرية الناجحة التي شهدتها خشبة المسرح القومي لمسرحيات (سر الحاكم بأمر الله) و(مسمار جحا) و(سر شهرزاد) وغيرها من أعماله الكبيرة.
ثم أخيراً يجد نفسه بعد ذلك يلقى مصير عاطف الأشموني مؤلف (الجنة البائسة) بطل مسرحيته الشهيرة (جلفدان هانم) حين لم يلتفت سادة (المسرح القومي) آنذاك لأعماله دون إبداء سبب فني إلا أن باكثير كان صاحب رأي مستقل لا يعجبهم ولم ينتمِ إلى شلة تحميه في عصر الشلل والقبائل الفكرية وهو الأمير الذي أشار إليه العديد من الكتاب المنصفين من زملاء باكثير ومريديه، فالأستاذ يوسف القعيد مثلاً يعبر عن هذه الحقيقة المرة في كلمة كتبها في ذكراه بمجلة المصور 18-11-1983م يعيب فيها على الحياة الثقافية تجاهل ذكرى باكثير ونسيانه فيقول (مشكلة باكثير أنه عبر هذا الواقع الثقافي دون أن يرتبط بشلة معينة ودون أن يحاول أن يكون جزءًا من جماعة ما فقررنا أن نعيد اغتياله مرة أخرى.. ولم يقف التجاهل عند حدود النقاد والباحثين والدارسين وأساتذة الأدب في جامعات مصر ولكنه يصل إلى حد تجاهل نتاجه الأدبي ومحاولة اعتباره كأن لم يكن في يوم من الأيام..). ولم ينفرد الأستاذ القعيد وحده بهذا العتاب للحياة الثقافية وإنما على مدى ربع قرن نجد العديد من معاصري باكثير وتلاميذه ينهضون بهذا الواجب كلما حلت ذكراه في نوفمبر من كل عام. والحقيقة أن باكثير قد تنبأ بأنه سيأتي اليوم الذي يأخذ حقه فيه حين قال ذات مرة لمجلة المسرح عدد 1966م: لم تقابلني عقبات في العمل الفني كما قابلني أشخاص في الحقل المسرحي اكتشفت أنهم يضحون بمثل كثيرة في سبيل مصالح خاصة، ولكني ماضٍ في طريقي أكتب، وسيأتي الوقت الذي تظهر فيه الأعمال وفقاً لمنطق البقاء للأصلح. وبالفعل فقد بقيت أعمال باكثير وبقيت ذكراه بها ونسي التاريخ الذين حاولوا طمس اسمه وإلغاء وجود أعماله.