قبل شهر تقريباً، أعلنت إحدى الشركات بمناسبة افتتاح فرعها في مدينة جدة، عن جائزة توزع عبارة عن بطاقات، تخول للعشرة الأوائل، الداخلين في صباح ذلك اليوم الحق في فرصة، قد يكسب فيها الفرد، أو لا يكسب. فتجمّع أعداد كبيرة جداً من الناس، من الساعات الأخيرة من الليل، وتدافعوا قبل فتح الباب، كل يريد حظاً يسيراً من حظوظ هذا الباب بعد فتحه.. وضرّ بعضهم بعضاً. بل قد مات منهم من أصبحت حياته ثمناً لدعاية تلك الشركة، فتدخلت الجهات الأمنية والصحية.
أما المسلمون هذه الأيام، فهم في موسم أكبر نفعاً، وأوفر حظاً من تلك الفرصة الدنيوية، إنه شهر رمضان المبارك، شهر المسابقة إلى الخيرات، شهر توزع فيه المصالح، ويزاد فيه الرصيد في ميزان الأعمال، بما لا حدّ له ولا مقدار، وعندما نقارن حالة بحالة، وموسما دنيويا بموسم أخروي، نجد الفرق شاسعا، والمكاسب لا تقارن..
لكنه أمر يجب أن يطرح أمام كل مسلم، قبل فوات الأوان، حيث يأتي النّدم، ولات ساعة مندم.
وحتى يدرك الفرد المسلم الفارق، فإن مقارنة المحسوس بالمعقول، أمر محبّب للنفوس، حتى ترى الواجب الذي يحسن عدم التغافل عنه، خاصة وأن موسم رمضان، وما أفاء الله فيه على عباده من مكاسب ذات خيرات لا تعدّ ولا تحصى، وما هيأ الله فيه من مصالح لا يفوتها إلا من حرم.. والخاسر في هذا الشهر فاته الغفران فيه.
ألا ترى إلى الناس في معهودهم الحسابي، يحسبون مكاسبهم بالقرش والهللة، ليكون هذا القليل في رصيدهم - إن استمر الربح ولم يصب بنكسة تحوّله إلى خسارة -، وبعد سنوات طويلة إلى رقم قد لا يرضي صاحبه، لأنه يطمع بربح أكثر، فما بالك يا اخي المسلم بمكاسب شهر رمضان، شهر الخيرات والبركات، الذي يدعوك فيه الداعي، بين فينة وأخرى: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشرّ أقصر..
بل أعظم المكاسب وأكبر الأرباح المعهودة في حياة الإنسان، والتي تسمى خيالية ونادرة لا تحصل إلا نادرا في حسابات الاقتصاديين يأتي للإنسان في صومه، واحتسابه الأجر من الله بما لا يتخيله الإنسان، ولكنه جزاء من الله وفاقا لصدق العمل والاخلاص فيه في هذا الشهر، توضح ذلك الوعد من الله ووعده سبحانه حق لا مراء فيه، وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق، الذي يخبر عمّا يعلّمه ربّه جلّ وعلا: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم 4 - 5) يقول عليه الصلاة والسلام، ضمن فضائل شهر رمضان، وما فيه من خيرات، ومكاسب يجب على كل مسلم ان يحرص عليها، ليأخذ حظّه منها في فرصة التوزيع، بحسن استجابته، واخلاص نيّته، وامتثال أمر الله وأمر رسوله في المسارعة بالعمل، وعدم تفويت هذا الموسم العظيم.
فقد أخرج البخاري في كتاب الصوم، ومسلم في باب الترغيب في قيام رمضان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
- (إن للصائم فرحتان: فرحة حين فطره، وفرحة بلقاء ربه.. وأن في للجنة باب اسمه الرّيان لا يدخل معه إلا الصائمون، فإذا تكامل عددهم أغلق).
- جاء في حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في فضل شهر رمضان وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، فمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه.
- وعن ابي الخطاب الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذات يوم وقد أهلّ رمضان: (لو يعلم العباد ما رمضان، لتمنت أمتي أن يكون السنة كلها رمضان، من رأس الحول، إلى رأس الحول، فقال رجل من خزاعة: يا رسول الله حدثنا: فقال: إن الجنة لتزيّن لرمضان، فإذا كان أول يوم منه هبّت ريح من تحت العرش، فصفقت ورق الجنة، فتنظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا رب اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجا، تقرّ أعيننا بهم، وتقر اعينهم بنا، قال: فما من عبد يصوم يوما من رمضان إلا زوج زوجة من الحور العين في خيمة من درّة نعت الله {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (الرحمن 72)).
قال النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة، فلما كان الصيام في نفسه مضاعفا أجره، بالنسبة إلى سائر الأعمال، كان صيام شهر رمضان مضاعفا على سائر الصيام لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام، التي بني عليها، وقد يضاعف الثواب بأسباب أخرى، منها شرف العامل عند الله، وقربه منه وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم وأعطوا كفلين من الأجر، وكلامه هذا مأخوذ من دلالة ما جاء في سورة القدر، التي هي من خصائص شهر رمضان، وهن في العشر الأواخر من رمضان، على أرجح الأقوال، حيث يقول سبحانه: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}: قالوا في تفسيرها: إن أجر قيامها والعمل فيها: خير من العبادة ألف شهر.. يعني (83) ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، وقليل من الأمة من يحصل سنه إلى هذا العمر.
كما أن الله سبحانه في كل ليلة له عتقاء من النار للصائمين، وأخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام: ان أول رمضان رحمة ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وروى أبو أمامة مرفوعا كما جاء في كنز العمال: ان الصيام جنة من النار - أي وقاية - وهو حصن من حصون المسلم، وكل عمل لصاحبه إلا الصيام يقول الله: (الصيام لي وأنا أجزي به).
هذه بعض المكاسب التي يهيئها الله للصائمين، فهل يرضى أي مسلم أن تمرّ به هذه السانحة ويفوّت ما فيها من خير أو يفرط في المكاسب التي توزّع.. لا شك ان العاقل لا يرضى لنفسه بذلك، إذاً ما علينا إلا اغتنام الوقت قبل ضياعه. وسوف نكمل معك أيها القارئ الكريم جانباً آخر من فضائل رمضان ومكاسب الخير فيه، حتى نحرص على الجدّ فيه ونسأل الله القبول.
وقعة شقحب
في عام 702هـ كانت هذه الوقعة بين المسلمين والتتار، وشقحب قرية قريبة من دمشق، في يوم الاثنين 4 شعبان، رجع الناس من الكسوة إلى دمشق ودخل الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به، ودعوا له وهنأوه بما يسّر الله على يديه من الخير، وذلك انه ندبه العسكر الشامي ان يسير إلى السلطان ويستحثه على السير إلى دمشق فسار اليه وحثه إلى المجيء بعد ان كاد يرجع إلى مصر.
فجاء وإيّاه جميعا فسأله السلطان ان يقف معه في المعركة فقال الشيخ: السنة ان يقف الرجل تحت راية قومه ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرّض السلطان على القتال، وبشّره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله غيره، إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقاً، وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وافطر هو أيضاً، وكان يدور على الاجناد والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، ليعلمهم ان افطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنكم ملاقو العدوّ غدا، والفطر أقوى لكم). فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري.
وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفّت العساكر والتحم القتال، ثبت السلطان ثباتا عظيما، وأمر بجواده فقيّد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء، وخلق كثير من الأمراء والمجاهدين، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد.
فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والآكام، فأحاط بهم المسلمون، يحرمونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة، إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله، وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منه جماعة الهزيمة فنجا منهم القليل، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمّة عظيمة شديدة ولله الحمد والمنة.
(البداية والنهاية لابن كثير 14: 34 - 35)
|