يذكِّرني السالف من الأبيات بأسلوب يتكرر في حياتنا اليومية ليل نهار، ويرتكبه الكثير من الناس غير آبهين لما يسببه من إحن ومحن، إنه (التهاون بالوفاء بالمواعيد المضروبة)، وإنها لخلّة كرهتها العرب في الجاهلية ورسخ كرهها الإسلام بتعاليمه المشرقة ؛ ولذا فإن العرب تهيب بالوفاء بالوعد فتقول: (أنجز حرٌّ ما وعد)، وضربت مثلاً للرجل الذي يعد ولا يفي بقولها: (برقٌ خُلَّب) فهو كالبرق الذي لا يأتي بالمطر، وإذا كانت تلك العادة منبوذة عند الجاهليين العرب، وعدُّوا التحلي بالوفاء بالوعد من كمال المروءة، فما بالنا نحن المسلمين لا نكون أجدر الناس اتصافاً بها، ونلوم بعضنا عند عدم الوفاء بالوعد أو مجرد التأخر فيه؟!
ومما يجرح مشاعر المرء أن الكثير يركب موجة هذه العادة ولا يرى أن فيها تفريطاً أو تقصيراً، بل ولا يرون أنهم تلبسوا بصفة من صفات النفاق، فما فتئوا يرتكبونها حتى صار الخلف ديدنهم، وهذا - لعمر الله - من الهوان والضعة، يضرب بعضهم مع أخيه موعداً في ساعة من نهار، فيجلس صاحبه بانتظاره - وما أقبح الانتظار وإن قلَّ! - ليأتي بعده بساعة أو بنصف الساعة بكل بجاحة وصفاقة، دون أن يقدِّم كلمة واحدة من اعتذار، وما علم هذا أنه نهب من صاحبه وقتاً ضاع منه ضحية ذاك الموعد المخلَف، ولو عاتبه صاحبه بكلمة واحدة لأصبح في نظر المتأخر مخطئاً، ولو رتَّب الواحد منا وقته لما وقع في مأزق إخلاف الوعد أو مجرد التأخر، وما أحوجنا إلى تربية عملية تعلمنا احترام المواعيد وإعطاءها الدرجة الأولى من الممارسة! ولنا في علمائنا قدوة وأيُّ قدوة! يذكر الشيخ أحمد الحمدان أن سماحة والدنا الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - كان ممن عرف عنه الحفاظ على الوقت، والدقة في التزام الوعد، مع أنه كان كفيفاً لا يحمل ساعة تضبط له وقته لكنه لفرط حرصه على الوقت ودقته في المواعيد يحس باقتراب الموعد أو حلوله دون أن يخبره بذلك أحد، فتجده إذا حان وقت الصلاة قال لمن بجواره: هل أذن للصلاة؟ فما يكاد يسأل هذا السؤال إلا ويسمع صوت الأذان، وكان في أكثر الأحيان هو الذي يذكر المكلف بحفظ مواعيده باقتراب الموعد، وهذا يدل على حرصه الشديد على القيام بما يجب عليه في وقته، وبأنه يحمل همَّ ما يريد القيام به، وأنه يخشى أن يتصف يخلق مَن إذا وعد أخلف.
وأما فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - فقد كان مثالاً في الحرص على الالتزام بالموعد والدقة فيه دقة متناهية، يذكرعنه الشيخ أحمد الحمدان مواقف عديدة تدل على دقته في الميعاد، وشدة حرصه على المحافظة عليه، يقول: كان الشيخ - رحمه الله - دقيقاً في مواعيده، ولم يكن يجامل أحداً في ذلك، بل كان يؤنب من يخلف الميعاد، ويحمِّله نتائج إخلافه الوعد، وكلما وجد فرصة يذكره بها بإخلافه الوعد يفعل.
ويذكر: أن الشيخ كان يحرص على شراء أدق الساعات ضبطاً للوقت، ويحملها معه في كل مكان يذهب إليه، وإذا اختلفنا في الوقت كان الفيصل في ضبطه ساعة الشيخ، فقد كان يتأكد منها عن طريق المذياع حال سماعه نشرات الأخبار.ويقول: أذكر أنه كان لنا موعد معه في درسه الذي كان يلقيه عن طريق الهاتف، وكان موعد الدرس في تمام الساعة التاسعة والنصف مساءً، بعد أن يعود من مسجده، فاتصلت به قبل الوقت بخمس دقائق تحسباً بسبب سوء خطوط الهاتف في فصل الشتاء، وقدر الله تعالى أن يتم الاتصال بسهولة، وأجاب الشيخ قائلاً: كم هي الساعة الآن؟ قلت: ونصف إلا خمس دقائق، قال: الموعد في أي ساعة هو؟ قلت: التاسعة والنصف.
قال: اتصل بعد خمس دقائق، وأغلق السماعة.
ويذكر الشيخ أحمد: أنه اتصل به مرة متأخراً بسبب سوء خطوط الهاتف، فقال لي: تأخرتم ثلاث عشرة دقيقة، قلت: ياشيخ خطوط الهاتف كانت السبب، فقال: تحسم عليكم ثلاث عشرة دقيقة من آخر الدرس، وفعل ذلك.ومما يدل على حرصه الشديد - رحمه الله - على الالتزام بالمواعيد المضروبة، وإعطاء الآخرين دروساً عملية في ذلك، ما ذكره تلميذه فضيلة الشيخ: أ. د. عبدالله بن محمد الطيار، بقوله: دعاني الشيخ - رحمه الله تعالى - للغداء سنة 1403هـ، وكانت الدعوة خاصة لي، فقال - رحمه الله -: هل تريد أن تحضر معك أحداً؟ فقلت: وكيل الكلية فقط، فقال الشيخ: إذن يحسن حضور عميد كلية الشريعة ووكيله، وقال لي الشيخ: الحضور الساعة الثانية ظهراً؛ لأني قلت: إن دوامنا يستمر إلى الواحدة والنصف.
وقال لي: انتبه لا تتأخر عن الموعد، فقلت له: إن شاء الله.
ثم خرجت من مكتبي الساعة الواحدة والربع، وذهبت لمكتب فضيلة عميد كلية الشريعة وألححت عليه بالذهاب للشيخ وعدم التأخر، وكانت معه معاملات كثيرة، فلم يخرج من مكتبه إلا الساعة الثانية إلا ثلثاً، وكانت الجامعة شرق بريدة، وأمامنا مسافة تحتاج إلى نصف ساعة على الأقل، وانطلقنا إلى بيت شيخنا ووصلنا الساعة الثانية وعشر دقائق، فلما وصلنا تفاجأنا بأن الشيخ راكب سيارته، فنزلت، وقلت له: أين تذهب ياشيخ؟ فقال: الأولاد بالداخل عندكم تغدوا، فقلت: ما جئنا من أجل الغداء، جئنا لنجلس معك، ووالله إن ذهبت لن ندخل، فضحك الشيخ، وقال: لا بأس بشرط ألا تتأخر مرة أخرى، فقلت: إن شاء الله، ولكن السبب كذا وكذا، فأعطانا الشيخ درساً عملياً في دقة المواعيد والاهتمام بها، والحرص عليها.ولو أدرنا المسبار إلى حياة العلماء المجربين، لوجدنا أن الشيخ الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله- يصف لنا موقفاً مرَّ به، لينطلق من بعده إلى وصف تلك الممارسات الخاطئة بأسلوب فكهٍ ساخر، محذراً منها ومن التلبس بها، يقول في كتابه (مع الناس): ركبت مرة الطائرة من مطار ألماظة في مصر، فتأخرت عن القيام بنصف ساعة انتظارَ راكب موصىً به من أحد أصحاب المعالي.ولما ثُرنا معشر الركاب وصخبنا طاربنا، فلم يسر - والله - ربع ساعة حتى عاد فهبط، فارتعنا وفزعنا وحسبنا أن قد جرى شي ء، وإذا العودة من أجل الراكب المدلل صديق صاحب المعالي، وقد تأخر لأنه لم يحب أن يسافر قبل أن يدخل الحمام، ويستريح بعد الخروج كي لا يلفحه (اسم الله عليه) الهواء البارد، وكنت يومئذٍ عائداً من رحلة رسمية، فلما وصلت إلى مطار المزَة في دمشق وجدت أكثر من مئتي إنسان بينهم مندوب وزير العدل، ينتظرون قدومي في الشمس منذ ساعة كاملة.
والسيارات مثل الطيارات، والدكاكين والدواوين، والمقاهي والملاهي، كل ذلك يقوم على تبديل المواعيد وإخلافها، حتى لم يبق لشيء موعد معروف، فيا أيها القراء خبروني - سألتكم بالله-: أي طبقة من الناس تفي بالموعد، وتحرص عليه وتصدق فيه، تدقق في إنجازه؟ الموظفون؟ المشايخ؟ الأطباء؟ المحامون؟ الخياطون والحذاؤون؟ سائقو السيارات؟ من؟ من يا أيها القراء؟ ويكون لك موعد مع الشيخ، فيجيئك بعد نصف ساعة، ويعتذر لك، فيكون لاعتذاره متن وحاشية، فيضيع عليك في محاضرة الاعتذار نصف ساعة أخرى، وإن دعوته الساعة الثانية جاء في الثالثة، وإن كان مدرساً لم يأتِ درسه إلا متأخراً.
والطبيب يعلن أن العيادة في الساعة الثامنة ولا يخرج من داره إلا العاشرة، وتجيئه في الموعد فتجده قد وعد خمسة من المرضى مثل موعدك، واختلى بضيف يحدثه حديث السياسة والجو والكلام الفارغ، وتركهم على مثل الجمر، أو على رؤوس الإبر، ينتظرون فرج الله، حتى يملوا فيلعنوا الساعة التي وقفوا بها على باب الطبيب، ويذهبون يفضلون آلام المرض على آلام الانتظار، ويؤثرون الموت العاجل المفاجئ على هذا الموت البطيء المضني.
أما الخياطون والخطاطون، والحذاؤون والبناؤون، وأرباب السيارات، وعامة أصحاب الصناعات، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنهم من أكذب خلق الله، وأخلفهم للوعد.
الكذب لهم دين، والحلف عادة، ولطالما لقيت منهم، ولقوا مني، وما خِطْتُ قميصاً ولا حُلَّة، ولا صنعت حذاء، ولا سافرت في سيارة عامة سفرة، ولا بعثت ثوباً إلى مصبغة (مغسلة) لكيه أو غسله أو تنظيفه، إلا كووا أعصابي بفعلهم، وشويتهم بلساني، وإن كان أكثرهم لا يبالي ولو هجاه الحطيئة أو جرير أو دعبل الخزاعي، بل إنهم ليفخرون بهذه البراعة في إخلاف المواعيد، والتلاعب بالناس، ويعدونها مهارة وحذقاً.فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف، ونعد وعد الصدق، وتقوم حياتنا فيه على التواصي بالحق، لا يعد فيه الصانع بإنجاز العمل إلا إذا كان قادراً على إنجازه، والموظفون يأتون من أول وقت الدوام ويذهبون من آخره، والأطباء لا يفارقون المكان ساعات العيادة، والخياط لا يتعهد بخياطة عشرة أثواب إن كان لا يستطيع أن يخيط إلا تسعة، وتُمحى من قاموسنا هذه الأكاذيب.
تقول لأجير الحلاق: أين معلمك؟ فيقول: إنه هنا، سيحضر بعد دقيقة، ويكون نائماً في الدار لا يحضر إلا بعد ساعتين.
متى تقوم حياتنا على ضبط المواعيد وتحديدها تحديداً صادقاً دقيقاً، فلا يتأخر موعد موعده؟ إن إخلاف الموعد الصغير، هو الذي جرَّ إلى إخلاف هذا الموعد الكبير، فلنأخذ مما كان درساً ؛ فإن المصيبة إذا أفادت كانت نعمة.ومتى صلحت إخلاقنا، وعاد لجوهرنا العربي صفاؤه وطهره، وغسلت عنه الأدران، استعدنا فلسطين، وأعدنا ملك الجدود. فابدؤوا بإصلاح الأخلاق، فإنها أول الطريق.انتهى كلامه رحمه الله.فهل لنا من عبرة وقدوة بمن مضى في الالتزام بالمواعيد؟ وهل نجعل أخلاق علمائنا نصب أعيننا عندما نضرب موعداً مع أحد؟ وقبل ذلك كله هل راعينا ذلك مراعاةً لديننا الحنيف الذي يوجب علينا الالتزام بالموعد، ويحذر من إخلافه أو التهاون فيه؟ وهل نُشعر الآخرين باحترامنا لهم باحترام مواعيدهم؟ أرجو أن يكون ذلك كله نصب أعيينا، والله ولي التوفيق.