* جدة - عبدالرحمن إدريس:
* من ذاكرة الأمس البعيد في مدن عربية صغيرة وكبيرة وقرى، يرتبط شهر رمضان بأشياء كثيرة والتي كانت أثيرة عن الناس فلا تتكرر ولا تحدث إلا في شهر الصوم ومنها مدفع الإفطار والسحور والإمساك.
* وإلى ما قبل حوالي القرن ظلت هذه الصورة في الأذهان قريبة بمعانيها الجميلة وما لها من حب في النفوس ثم استمرت بعد ذلك أعواما طويلة حتى دخلت المجتمعات مراحل من المعاصرة والتعامل مع تقنيات حديثة تلغى الحاجة التي وجدت سابقاً، والمثال هنا مع (المسحراتي) الذي يخترق جدران البيوت بصوته وآلاته لايقاظ النائمين لتناول سحورهم.
قبل خمسين سنة كانت مدينة جدة داخل سورها القديم وبيوتها المحدودة وسكانها يخلدون إلى النوم بعد صلاة التراويح بوقت قصير.. وهذه الشخصية (المسحراتي) هي وسيلة تعلن الليل في أواخره وقبل موعد أذان الفجر فيقرع المسحراتي طبلة بينما يختار (وكأنها إذاعة متحركة) المناداة بعبارات وجمل سجعية تناسب المعنى والهدف، فلا يتردد النائمون في الانتباه وقد اعتادوا هذه الأزجال التي تصل إلى عمق أسماعهم.
تقاعد المسحراتي.. لماذا؟
** تقاعد المسحراتي في جدة أو تم طي قيد وظيفة لم يعد لها لزوم او احتياج منذ أكثر من ربع قرن والأسباب معروفة.. ولكنه في واجهة الذكريات التراثية يعود في ليالي رمضان وقد تغير وتبدل كل شيء.
** يضيع صوته العذب الا في اسماع كبار السن والحنين يأتي في لحظات السحر انتظاراً لحلم مضى ودور انتهى.
** ونقرأ في ذاكرتهم حميمية تلك المشاهد الرمضانية وعلاقتهم بها وهم يعيشون صخب الحياة الجديدة وضجيجها.
** الاختلاف هو نهار رمضان بالعمل والجهد والصلاة في المساجد وبعد التراويح نوم عميق حتى الموعد للقيام والاستعداد ليوم جديد يبدأ مع صلاة الفجر في مهن وأعمال تجارية ويقترب المغرب في جولات السوق الوحيد الذي لا يبيع الوجبات الجاهزة فهي مهمة تقتصر على ربات البيوت، وبعد ذلك تكون الفرصة لبسطات البليلة والمقلية التي يقبل عليها أطفال الحارة أثناء لعبتهم وجريهم في حارات لا تصل إليها السيارات إلا نادرا فهي ليال متاحة لبعض السهر والترويح عن النفس بعد عناء يوم شاق من نهار الصيام في الجد والعمل والانكباب على الذكر في المساجد التي لازالت باقية في تلك الحارات القديمة.
** صور جميلة من بقايا الأمس يكتبها رمضان لتبقى عبرا في متابعة نقلات الزمن ومتغيراته وشتان بين ذلك الماضي وما هو عليه الحال في هذا العصر..
عودة لإحياء التراث
** (المسحراتي) وظيفة ومهنة تستمر في بعض البلدان الإسلامية كدور تطوعي يقوم به البعض بالتوارث باعتبارها نهاية رمضان عائدة بمكافآت مالية من السكان وكتب لها الاستمرار وان كان محدوداً.
** حول هذه الوظيفة وارتباطها بعمدة الحي حيث يلتزم المسحراتي بمواعيد دقيقة للتجوال في الحارة وهو يتحمل مسؤوليته كاملة كانت مقترحات كبار السن بشكل خاص تتمنى احياءها من جديد للتذكير بذلك الماضي وشاهد على زمن مختلف في كل ايقاعاته.
** هنالك من يضع تصوراً لكيفية عودة وظيفة المسحراتي والذي كان ينادي ويرفع صوته ليلا والجميع نيام ومن واقع الفكرة بالتجديد استمرارا حتى وان كان شكليا فلابد من صوت صادق يقاوم السهر مع الفضائيات بقدر الاستطاعة والى ان يسمع أو يحظى بلفت النظر وهذا ينتهي لايجابية متنامية في القلوب والرأي هنا انه مجال لايقاظ الضمائر النائمة فالسهر على الملهيات المرفوضة في ليالي رمضان ولا علاقة تذكر او تقبل في تبريرها بالضرورة للترويح عن النفس..
تحديث المهمة والدور
** مجموعة من الآراء تتفق في استطلاع سريع حول الفكرة وأحاديث تدور عن المقارنات بين رمضان الأمس واليوم: جاءت بوجهة النظر تأكيداً في إمكانية إحياء دور المسحراتي وتحديث دوره وأماكن تواجده والرسالة الكلامية في اختصار يهدي بها الله الغافلين فيغلقون الشاسة بما فيها ويتفرغون لرمضان كشهر عبادة من صيام وقيام وتهذيب للسلوكيات وتقويمها خاصة في الاستفادة من الوقت وبرمجته إلى ما ينفع الإنسان.
** الرؤية الأخرى يحددها (يحيى علي أحمد) الذي عايش جدة داخل السور ويبلغ الثمانين من العمر ومن خلال حديث شارك فيه أبناؤه الدكتور عبدالله، ورجل الأعمال (حسن).. كانت بأفكار متعددة منها ان تتاح فقرة تلفزيونية للمسحراتي بطريقة سعودية وكما هي في جدة القديمة فهي موجودة في تلفزيونات بعض الدول العربية الشقيقة ولكن بلحن غنائي وتطريب لا يليق برمضان وخاصة الثلث الأخير من الليل.. فإذا تم ذلك فهي تعني تراثا أصيلا يمثلنا.. وفي مجال نشاط البلدية اتجهت أمانة جدة إلى التوعية بشخصية (ابن البلد) ولقيت استحساناً والفة بين الناس فلماذا لا تستغل شخصية (المسحراتي) للموسم الرمضاني واذكر هنا ان شخصية مسحراتي جدة (يحيى زويد) وكان انسانا واعيا مثقفا وشاعرا ولم تكن هذه وظيفته فهو صاحب إحدى اقدم المكتبات في جدة داخل السور وان كانت عبارة عن دكان صغير إلا انها نموذج نادر واهتمام بالكتب الثقافية منذ وقت مبكر.
وأمانة جدة التي اعطت اهتماما كبيرا بالتراث جديرة بإحياء هذه الصورة في أطر يتحقق من خلالها تجسيد مشاهد الماضي وتوجيه الوعي في مجالات متعددة.
** الجانب الأخير من هذا الموضوع هو علاقة المنطقة التاريخية بجدة ووسط البلد بهذه الشخصية التي لا يجب أن تغيب تماما فهي مجال لتجسيد واجهة تراثية من خلال الشخصيات الإنسانية وأدوارها في خدمة المجتمع.
** مسرع الشهر الكريم في الانتهاء وهذه الأفكار تطرح نفسها للدراسة والنقاش لرمضان قادم.
|