في الناس من يقول كلاماً على غير وجهه الظاهر، ويلوي حديثه بطريقة يهدف بها إلى شيء، ولا يمسك عليه السامع شيئا من الخطأ في ظاهر ما يقول، وهذا هو لحن القول في لغة العرب، اضافة الى معانيه الأخرى. فاللحن بتسكين الحاء وبفتحها معناه اللغة، وبهذا فسروا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا الفرائض واللحن، أي تعلموا لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم.
ولكن المعنى المحظور للحن هو التمويه واخفاء غير ما ظهر، وفي هذا تلاعب بالمشاعر واساءة الى الناس أحيانا، والعامة تستخدم كلمة (اللحن) بهذا المعنى فيقولون: فلان يلحن في كلامه، يعني: يموِّه، ويقصد غير ما يتبادر الى ذهن المستمع، وبهذا فسَّر علماء اللغة قول الشاعر:
منطق رائعٌ، وتلحن أحياناً
وخير الحديث ما كان لحناً
حيث قالوا: إن المقصود باللحن في البيت أنها تتكلم بالشيء وتريد غيره، وهذا المعنى يكون جميلا إذا كان من باب الامتاع والتورية اللطيفة دون قصد الى الإساءة، فإذا قصد (اللاحن) الاساءة فقد خرج بالكلام الى دائرة الايذاء لمشاعر من يقصده باللحن، وهذا لا يجوز شرعاً.
وقد صوَّر لنا القرآن حالة من يقولون خلاف ما يعتقدون فقال تعالى {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، أي في فحواه ومعناه، وهذه حالة المنافقين الذين يعيشون على الهمز والغمز واللَّمز، وينسون ان الله سبحانه وتعالى يطلع على السرائر، ويجازي الانسان بنيته وقصده إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر. ولعلَّ من هذا المعنى القبيح للحن القول ما ورد من قول اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم (راعنا) بمعنى أمهلنا وأنظرنا، وهم لا يقصدون هذا المعنى الظاهر السليم وإنما يقصدون المعنى القبيح، وهو اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالرُّعونة، وهي ضربٌ من الشدة والانفعال غير المنضبط، ولذلك كما ذكر المفسرون قال تعالى مخاطبا المسلمين {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا} مخالفة لليهود، وتفويتا لفرصة اساءتهم واستهزائهم.
يقال في اللغة: رجل لاحن، إذا كان يصرف كلامه عن جهته، وفلانٌ لحنَ في قوله، إذا أخذ به ناحية أخرى بعيداً عن الصواب، فهو يعدل عن الصواب الى الخطأ بطريقة كلامه، وباختياره للكلمات ذات المعاني المتعددة. والناس في حياتهم العامة يفعلون ذلك، فأنت تسمع شخصاً يقول: (فلان ممتاز) فتفهم من نبرة صوته وطريقة أدائه وما يصاحب ذلك من حركة يده أنه يقصد العكس، وهنا تأتي مسألة المحظور في لحن القول.
وقد ذكر عطاء بن أبي رباح قصة جرت وهو حاضر في مجلس محمد بن يوسف الثقفي وكان واليا على اليمن، أشار فيها الى ان كلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله)، قد قيلت في المجلس بقصد تأكيد اغتياب رجلٍ غائبٍ نال منه بعض الجالسين، وكان أحدهم يردد هذه الكلمة تأكيدا لما يقولون، وهنا يدخل هذا الأسلوب في لحن القول المذموم، مع أن الرجل يردِّد كلمة عظيمة الأجر لمن يقولها على حقيقتها.
{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} لابد أن نضع هذه الآية الكريمة نصب أعيننا إذا تحدثنا حتى لا تتضاعف ذنوبنا ونحن غافلون.
إشارة:
{وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}.
|