شهد الأسبوع الماضي وبداية هذا الأسبوع في السعودية جولة جديدة من الاكتتاب العام في شركة مساهمة جديدة، هي شركة (اتحاد اتصالات) وكان مشهد الاكتتاب بالغا في دلالته من ناحيتين.
الناحية الأولى: حجم السيولة المالية المتوافرة في السوق السعودية، حيث تشير التوقعات الى أنه سيتم تغطية الاكتتاب بأكثر من عشرين ضعفا حسب متوسط التقديرات المتداولة في الأوساط المالية المتابعة لعملية الاكتتاب وهذا بحد ذاته لافت لأن حجم الأسهم المطروح للاكتتاب هو عشرون مليون سهم بقيمة إجمالية هي مليار ريال سعودي على أساس خمسين ريالا للسهم الواحد. مما يعني أن حجم الأموال التي يتوقع أن يتم الاكتتاب بها قد يصل إلى ما لا يقل عن عشرين مليار ريال.
الشركة لن تأخذ أكثر من المليار المطلوب فقط، وستعيد بقية الأموال لأصحابها بعد انتهاء عملية التخصيص، أو تحديد كمية الأسهم التي سوف يحصل عليها كل مكتتب لمن تذهب أرباح هذا المبلغ الضخم؟
والناحية الثانية ذات الدلالة وهي امتداد للأولى: وهي فضيحة البون الشاسع بين حجم الأسهم المطروح للاكتتاب مقارنة مع حجم السوق الاقتصادية السعودية، وحجم المدخرات المتوافرة في هذه السوق ويتضح هذا بشكل خاص في أن هذا الاكتتاب في شركة (اتحاد اتصالات) هو الوحيد المطروح للمساهمة في هذه الفترة وهذا تقليد سارت عليه مؤسسة النقد السعودي منذ سنوات، بالرغم من الاختناقات والفوضى التي تسبب ويتسبب بها. كان المفترض أن يسمح بطرح أكثر من اكتتاب واحد في الوقت نفسه، وذلك استجابة مع حجم السوق، وحجم المدخرات المالية في هذه السوق لأن هذا يخفف الازدحام، ويسمح لكل مساهم بالاختيار بين أكثر من اكتتاب، وبالتالي يأخذ حصة معقولة من الأسهم المطروحة، تتناسب مع حجم مدخراته لكن يبدو أن القدرات الإدارية والتنظيمية لمؤسسة النقد، وللبنوك، والشركات لا تتحمل أكثر من اكتتاب واحد في كل فترة على حدة والأسوأ من كل ذلك، هو البون الشاسع بين ما يحتفظ به المساهمون المؤسسون لأنفسهم في كل شركة، وما يتم طرحه للاكتتاب العام يحتفظ هؤلاء المؤسسون بنصيب يتجاوز كثيرا ما يسمى بنصيب الأسد من أسهم الشركة، ثم طرح ما يتبقى من ذلك، أو الفتات المتبقي لبقية الناس الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال حول نظام الشركات المساهمة، وخاصة أنه بهذه الطريقة يفتح الباب واسعا أمام قيام شركات تسمي نفسها مساهمة، لكن تحتكر ملكيتها فئة ثرية صغيرة، وتستخدم هذه الفئة الاكتتاب العام للتغطية على هذه الطبيعة الاحتكارية، من ناحية، ولتوظيف مدخرات صغار المساهمين لزيادة ثرواتها على حساب المجتمع ككل.
وهذا ما كشفه الاكتتاب الأخير فحجم الأسهم المطروحة للاكتتاب العام أو للجمهور في شركة (اتحاد اتصالات) لا يمثل إلا عشرين في المائة فقط من رأسمالها سيتقاسم هذه النسبة الضئيلة ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين مكتتب حسبما هو متوافر عن سير الاكتتاب حتى الآن في حين يتقاسم نسبة الثمانين في المائة الباقية سبعة مساهمين مؤسسين فقط، أغلبهم شركة غير مساهمة. أقل نسبة يملكها المساهم المؤسس في هذه الشركة هي ستة في المائة من رأس المال، أو ستة ملايين سهم، بقيمة ثلاثمائة مليون ريال سعودي، على أساس خمسين ريالا للسهم الواحد ونظرا لحجم الإقبال الكبير على الاكتتاب، وللمنحى التصاعدي لسوق الأسهم السعودية، يتوقع أن يرتفع سعر السهم لهذه الشركة بعد طرحه للتداول على الأقل ما بين 150 و200 ريال فإذا ما ارتفع سعر السهم مائة ريال مثلا، فإن أقل المساهمين المؤسسين يتوقع له أن يحصل على ربح صاف لا يقل عن ستمائة مليون ريال، وذلك خلال أقل من شهرين من الآن. أما إذا ارتفع سعر السهم بمقدار مائة وخمسين ريالا، وهذا الاحتمال الأرجح وفقا لمعطيات السوق، فإن الربح الصافي لأقل المساهمين المؤسسين سيقفز إلى تسعمائة مليون ريال في هذه الحالة سيتمكن هذا المساهم المؤسس من تسديد الثلاثمائة مليون ريال التي استخدمها لدفع حصته في تأسيس الشركة، في حالة أنه اقترض هذا المبلغ بعد ذلك سيحتفظ بستمائة مليون ريال كربح صاف، خلال مدة وجيزة، دون أن يقوم بأي جهد يذكر في المقابل فإن المكتتب من الجمهور، ومن ذوي الدخل المحدود لا يمكن له في كل الاحوال ان يحصل خلال الفترة ذاتها، على ربح يتجاوز الألف أو الألف وخمسمائة ريال هذا على افتراض أن حجم الاكتتاب سوف يسمح بتخصيص عشرة أسهم لكل مكتتب، حسب المعادلة المعتمدة للتخصيص وهو افتراض يبدو بعيد الاحتمال بل الارجح ان التخصيص لن يعطي للمكتتب الواحد أكثر من خمسة اسهم، بثمن بخس هو مائتان وخمسون ريالا فقط.
الاكتتاب في شركة (اتحاد اتصالات) ليس إلا نموذجاً فاضحا لما يحصل في الاكتتاب في السعودية فقبل اشهر حصل الشيء نفسه مع شركة الصحراء التي تحتكر ملكية اغلب رأسمالها مجموعة الزامل بل ان كل عمليات الاكتتاب التي تمت في السنوات الاخيرة لا تخرج عن هذا التقليد.
والنتيجة المتوقعة تمثل تفاوتا صارخا وغير مبرر بل انه استخدام مكشوف لمدخرات صغار الساهمين ويؤكد ان طريقة الاكتتاب المعمول بها حتى الان في السعودية تحولت الى مجرد آلية لمراكمة ثروات الاغنياء، والابقاء على الطبقات الاخرى تراوح في مكانها من حيث قدراتها المالية، او حجم مدخراتها وقدراتها الاستثمارية بعبارة أخرى، آلية الاكتتاب الحالية ترسخ عملية فرز طبقي خطيرة على مستقبل البلد فاستمرار هذه العملية يهدد بعرقلة تبلور ونضج الطبقة الوسطى في المجتمع السعودي، ويجعل من بنية هذا المجتمع مختلة وغير متوازنة ما بين طبقة غنية بشكل فاحش، وطبقة متوسطة ومهزوزة، ونمو للطبقة الفقيرة، والأغرب من كل ذلك انه في الوقت الذي تعمل فيه الدولة بكل الوسائل على جذب رؤوس الأموال الاجنبية للاستثمار في السعودية، تعمل آلية الاكتتاب، المصادق عليها من الدولة على تهميش جزء مهم من رأس المال المحلي وعدم اعطائه الفرصة التي يستحقها للمساهمة في عملية الاستثمار، ولعله من نافل القول ان الأولوية القصوى في الاستثمار يجب ان تكون لرأس المال المحلي اولا ، ثم يأتي راس المال الأجنبي بعد ذلك, وهذا يتطلب تدخل الدولة لتصحيح نظام الاكتتاب بما يوقف التوجه نحو احتكار الثورة من قبل فئة صغيرة على حساب المجتمع ككل، وبما يسمح للمواطنين من ذوي الدخل المحدود ان يحصلوا على حقهم في اسهم الشركات المساهمة وبالتالي المشاركة في الاستثمار في مستقبل وطنهم.
الاقبال الكبير على الاكتتاب الأخير فاق كل التوقعات، وكشف ان حجم الاسهم المطروح قد خذل السوق، وخذل استعداد المواطن للاستثمار بحثا عن الربح المشروع، ولو عن طريق المخاطرة بالاقتراض لشراء ما يتيسر من تلك الاسهم لكن اغلبية صغار المساهمين لن تتمكن حتى من سداد ما اقترضته. وهذا ليس بسبب خطأ ارتكبته هذه الأغلبية، ولا بسبب آلية السوق الحرة من كل تدخل، بل بسبب الطريقة المتبعة في الاكتتاب، وهي طريقة اخلت بآلية السوق وجعلت منها عونا للبعض على الاحتكار والاستفراد بثروة المجتمع، وهذا مع الوقت يشكل تهديدا لمستقبل الاستقرار الاقتصادي والسياسي للدولة. محاولة البعض التنويه بنجاح الاكتتاب لا تعكس إلا واحدا من اثنين إما جهل بحقيقة ما حدث ويحدث، او مجرد تملق بارد، وربما الاثنان معاً.
* كاتب سعودي |