غزة بين الانسحابات والاعتداءات

يحاول أرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل الوفاء بوعوده للانسحاب من غزة في خطوة ظاهرها التوجه نحو السلام وباطنها الاستجابة لمقتضيات هزيمة لا مراء فيها لإسرائيل التي عجزت عن التصدي للمقاومة المتصاعدة في القطاع، كما أن عليه إقناع جماهير حزبه الغاضبة بجدوى هذا الانسحاب والتخلي عن أراضٍ اغتصبوها من الفلسطينيين وأقاموا عليها مستوطناتهم.
ويحاول شارون التمسك بالملامح المظهرية للخطوة التي تبرزه لأول مرة في حياته كداعية للسلام، لكنه يفشل في كل مرة في الوفاء بمتطلبات هذا الدور؛ لأن طبيعته الدموية لا تكف عن الإفصاح عن نفسها. فقبل يوم من التصويت على قرار الانسحاب في الكنيست لم يستطع شارون مقاومة الرغبة القوية في الاعتداء على خان يونس؛ ليخرج من هذه المغامرة الدموية الجديدة بأكثر من 12 شهيداً وعشرات الجرحى في المدينة.
العدوان الجديد يرسل رسالة إلى المتطرفين من اليهود الذين يعملون على إحباط خطط الانسحاب، وشارون يريد أن يقول لهم: إنه يسعى بجدٍّ إلى تقليم أظافر المقاومة قبل أن يخرج من القطاع، لكن المقاومة سجلت عملية بطولية لتثبت أنها هي التي أجبرت إسرائيل على التفكير في خطط الخروج، عندما اقترب رجالها من دبابة إسرائيلية ليصيبوها بقذيفة، حيث أسفرت العملية عن مقتل ثلاثة جنود صهاينة، وقد جهدت السلطات الإسرائيلية في إخفاء نبأ القتلى، لكن الأخبار تسرَّبت من المصادر الإسرائيبلية.
كما أن خطة شارون تنطوي من جانب آخر على محاولة مدعومة أمريكياً للالتفاف على خارطة الطريق التي تنص على إقامة دولة فلسطينية بحلول العام المقبل 2005م. ولأن الدولة الفلسطينية هي في غير وارد الخطط الإسرائلية، ولا تتواءم مع طبيعة التفكير الشاروني، فإن التعجيل بالانسحاب من غزة يستبق خطة خارطة الطريق، وبالتالي لا يترك مجالاً لإقامة الدولة؛ حيث خطة شارون تجرِّد الدولة الفلسطينية من كل أسباب وعناصر قيامها من خلال حرمانها من المساحات التي يفترض أن تقوم عليها؛ إذ إن شارون يريد الحفاظ على الكيانات الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، كما أنه مستمر في بناء سوره العازل الذي يلتهم بدوره مساحات مقدرة.
وفي إطار العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل فإن واشنطن تنجرف وراء حماية هذا الكيان العنصري بكل خياراته الاستعمارية والتوسعية دون الاهتمام بالهاوية السحيقة التي تنحدر إليها وهي تفعل ذلك، باعتبارها دولة كبرى لا ينبغي لها الانحدار إلى هذا الدرك السحيق من السلوك الإجرامي الذي يجعل من إسرائيل الدولة الإرهابية الأولى دون منازع على مستوى العالم، بينما يجعل من الولايات المتحدة مجرد تابع لمجرم عتيد.