شهدنا خلال الايام الماضية حالة اقتصادية فريدة برزت معالمها من خلال التزاحم الشديد للاكتتاب في اسهم اتحاد الاتصالات الذي لم يولد بعد ومن خلال تخلق السوق السوداء لبيع نماذج الاكتتاب حتى أضحت بعينها مجالا للكسب السريع، ولقد زاد من غرابة الأمر تزاحم المقتدرين على شراء بطاقات العائلة للفقراء الذين لا يجدون ما يكتتبون به محاولة منهم لزيادة فرصهم في الحصول على اكبر عدد ممكن من الاسهم بعد التخصيص لعلمهم بإمكانية تحقيق الربح السريع بعد طرح هذه الأسهم للتداول في شهر شوال القادم.
وفي ظني أن هذه الظاهرة تحكي الكثير من الحقائق عن اقتصادنا الوطني التي لا بد ان نتعامل معها بشكل سريع لتحقيق الاستغلال الأمثل لقدراتنا وإمكانياتنا الاستثمارية وفي مقدمة هذه الحقائق توفر الكمية الهائلة من السيولة النقدية التي تطارد عدداً قليلا من الفرص الاستثمارية المتاحة بما فيها الاكتتاب في الشركات المساهمة والاستثمار في الأسهم المتداولة في السوق. وإذا كنا كاقتصاديين نعلم بأن التضخم (الارتفاع في المستوى العام للأسعار) ينشأ في الأصل نتيجة لكون كمية كبيرة من النقود تطارد كمية قليلة من السلع، فإن هذا قد يفسر الارتفاع الهائل في أسعار أسهم بعض الشركات في الوقت الذي تشتكي فيه هذه الشركات من تدني مستوى أرباحها أو في مستوى كفاءتها الإدارية والإنتاجية مما يجعل الاستثمار في الاسهم لدينا مجرد مضاربة وتسابق على شراء الأسهم بغض النظر عن واقع الشركة ومعطيات أدائها المستقبلي. ومن الحقائق ايضا قلة فرص الاستثمار المتاحة أو عدم وجود قاعدة معلومات دقيقة عن هذه الفرص مما يجعل المستثمر أو المساهم ينساق مع الخيل دون أن يعي معدل العائد المنتظر ودون ان يقارن ذلك بالعائد على فرص الاستثمار الأخرى.
وفي هذا السياق أجد أن من الضروري أن يقوم مجلس الغرف التجارية والصناعية والمكاتب الاستشارية المتخصصة بدورها في مجال رصد هذه الفرص وجعلها متاحة بتفاصيلها الدقيقة أمام صغار المستثمرين الذين لا يجدون المقدرة على إجراء دراسات الجدوى المتخصصة، ولا يملكون الكفاءة اللازمة لتمحيص الفرص الاستثمارية وتقدير الفرص الأكثر ملاءمة إضافة إلى ذلك فإن التزاحم والتصادم أمام البنوك للاكتتاب في أسهم اتحاد الاتصالات يحكي حقيقة أخرى وهي قلة عدد شركات المساهمة الموثوقة التي يمكن لصغار المستثمرين الاكتتاب فيها خاصة أولئك الذين لا يملكون مبالغ تكفيهم لتمويل مشاريع استثمارية مستقلة. وبالتالي فإن الحاجة تبدو واضحة لتنمية ثقافة الاستثمار المشترك من خلال التوسع في إنشاء الشركات المساهمة ذات المسؤولية المحدودة حتى تتاح الفرصة للافراد من ذوي الدخل المحدود لتنمية أرصدتهم النقدية القليلة التي ظلت تأكلها الصدقة ولتنمية القدرة الاستثمارية المجتمعية في الاقتصاد الوطني ولحماية المواطن من المشاريع الفاشلة التي تقدمها وتديرها في الغالب العمالة الوافدة.
وأخيراً فإن حكاية الاكتتاب في أسهم اتحاد الاتصالات تعطي مؤشرا خطيرا حول مقدرتنا على استيعاب الأموال العائدة بعد الحادي عشر من سبتمبر ومقدرتنا على استيعاب الأموال الأجنبية والوطنية التي لا زلنا نطالب باستقطابها في الاستثمارات المحلية. فإذا كنا غير قادرين على استيعاب هذا الكم الهائل من السيولة النقدية المتاحة في أيدي المواطنين وإذا كان المواطن الذي ولد وترعرع في أحضان هذا الوطن لا يزال بعيدا عن المعلومة السليمة التي تقوده إلى الفرص الاستثمارية المتاحة، فكيف بنا ونحن نتحدث عن المستثمر الأجنبي الذي يحتاج إلى أن يبذل المستحيل ليتعرف على المسار المعقد لإجراءات ومتطلبات الاستثمار المحلي وعلى الطرق المؤدية للإدارات والأجهزة الحكومية المتعددة التي يحتاج إلى زيارتها أكثر من مرة قبل أن يبدأ أصلا في دراسة الفرص المتاحة والآليات اللازمة لتنفيذها ميدانياً. علينا في كل الأحوال أن نؤمن بأن تشجيع الاستثمار يعني التنازل عن البيروقراطية الإدارية السلطوية وأن تأخرنا في الاستجابة إلى متطلبات المستثمرين يعني ترك الفرصة للاقتصاديات الإقليمية المجاورة لمنافستنا ليس فقط على المستثمر الأجنبي ولكن ايضا على ما هو موجود لدينا في الوقت الحاضر خاصة في ظل التسهيلات الكبيرة التي تمنحها هذه الدول للمستثمرين لقناعة المخططين لديهم بأن التسهيلات الوقتية تعني مكاسب اقتصادية واجتماعية وأمنية هائلة في المستقبل. فهل نعي هذه الحقيقة قبل فوات الأوان أم نظل نسبح في غياهب البيروقراطية التي تتشكل بناء على رغبة بعض المسؤولين الذين يرون بأن لديهم على كراسي المسؤولية حكماً مميزاً لا يقبل النقض ولا حتى الاعتراض.
|