اطلعت بتاريخ 3 رمضان 1425هـ في العدد 11707 من صحيفة الجزيرة على مقال للأخ عبدالله الخضيري معقبا على ذاتي تحت عنوان (هلال آخر شعبان شمال الشمس وليس شرقها) وإني أشكره الشكر الأجزل على إثارة الموضوع.. إلا أن المتأمل في حال الرد يجد أنه ينحاز بشكل كبير نحو الخلط في كثير من الأمور وينطلق من منطلقات لا ترتكز على أصول علمية مخالفا المسلمات الفلكية المعروفة من الدين بالضرورة، وإن كان التعقيب يتضمن معطيات جميلة ينمي الذائقة الحوارية ويفتح الباب على مصراعيه للنقاش حتى تتضح الرؤية وتتلاشى كثير من الضبابية لمن التبس عليه الأمر، إلا أن هناك قصورا فاحشا بأوعية الثقافة الفلكية التي تشكل برمتها حصنا منيعا لكل الأفكار التي تنطلق من منطلقات مجردة وخالعة ربقة العلم من رقبتها كالادعاء برؤية الهلال وإن خالفت سنن الله الكونية التي جعلها الله سابقة على ميلاد الهلال كادعاء الأخ عبدالله برؤية هلالين لشهرين مختلفين في يوم واحد..؟
والذي تفوته أمور كثيرة بالقواعد الحسابية وحركة النيرين لا ينبغي اعتماد كلامه في الأحكام الفقهية المرتبطة بالقواعد الفلكية، فدعوى رؤية الهلال بعيد الغروب في اليوم الذي رئي فيه صباحا هي دعوى بمحال بلغت مرتبة من الجهل بالسنن الكونية لا تستحق الوقوف عندها لوضوحها ولمخالفتها للحساب الدقيق المنصوص عليه بقوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي بحساب دقيق لا يعتريه الخلل، وقد قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة في أحد تقريراته عن أمر واضح: (وهذا أوضح من أن يحتاج إلى تقرير، ولكن الأذهان التي اعتادت قبول المحالات قد يحتاج في علاجها إلى ما لا يحتاج إليه غيرها) .
وقبل الرد على إمكانية رؤية هلالين لشهرين مختلفين في يوم واحد أود أن أمهد بمقدمة مفيدة علها تكون فاتحة...؟
فأقول: الرؤية البصرية مشوبة بالأغلاط والأوهام، والقرآن الكريم أشار إلى هذه الحقيقة في آية السراب ولقد عالجها علماء المسلمين في مباحث علم كانوا يسمونه علم المناظر، وهو علم يميز به بين ما يظهر في البصر بخلاف ما هو عليه بالحقيقة وبين ما يظهر على ما هو بالحقيقة، قال ابن خلدون في مقدمته: (ومن فروع الهندسة المناظر، وهو علم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري بمعرفة كيفية وقوعها... ثم يقع الغلط كثيرا في رؤية القريب كبيرا والبعيد صغيرا. وكذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء أو وراء الأجسام الشفافة كبيرة ورؤية النقطة النازلة من المطر خطا مستقيما والسلقة دائرة وأمثال ذلك، فيتبين في هذا العلم أسباب ذلك وكيفياته بالبراهين الهندسية ويتبين به اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض الذي ينبني عليه معرفة رؤية الأهلة وحصول الكسوفات وكثير من أمثال ذلك. وقد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين، وأشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم ولغيره فيه أيضاً تأليف) ..
ولدي تجربة طويلة مع الرصد بالعين المجردة منذ الصغر وبالتلسكوبات فكانت النتيجة أننا نَهِمُ كثيراً عن طريق العين المجردة ونتحقق من ذلك عن طريق التلسكوب دون أدنى شك.
ورؤية البصر أيها العزيز وسيلة من وسائل العلم لا غير. فإذا كان صاحب الشريعة أشار إلى استعمالها فليس معنى ذلك أنه ألزمنا الاقتصار عليه حتى ولو تمكنا من وسائل أكثر ضبطا معضدة لها أو مستقلة عنها.
ولذا نجد أن عرف الشارع في خطابه هو ورود الرؤية بمعنى مخالف للرؤية البصرية وهو العلم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ} (258) سورة البقرة
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضٍَ} (19) سورة إبراهيم
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (1) سورة الفيل
والسر في هذا الاستعمال اللغوي المشترك هو أن الرؤية البصرية وسيلة من وسائل العلم باعتبارها حاسة من الحواس الملتقطة لإشارات المحيط فسمي العلم الحاصل غالبه منها رؤية. ولذا يمكننا إلحاق حساب علماء الفلك بالرؤية. وحسابات علماء الفلك في إثبات أهلة الشهور إنما كان مبدؤها وأساسها الأرصاد الكثيرة التي قام بها الإنسان منذ العصر البابلي إلى اليوم، وعليه إن الفرق بين المعتمد على الحساب والمعتمد على الرؤية الحاصلة بمناسبة أحد الشهور أن الأول يعتمد على شهادات كثيرة بلغت كثرتها عدد التواتر، فاستخلص العلماء منها أن ثمة عادات مضبوطة للفلك في حركته وظهور هلاله، بينما لا يعتمد الثاني إلا على مشاهدة أحادية لا تقوى على مغالبة المشاهدات المتواترة إذا تعارضت معها. فأصبحت الحسابات الفلكية قطعية الدلالة ولا أظن أحدا بمقدوره أن ينكر هذه الحقيقة. ودلالة النظر دلالة ظنية لكثرة ما يقع فيها من أخطاء، فإذا تعارض القطع مع الظن نأخذ بالقطع ونطرح الظن. فهل من شرع الله تعالى أن نتمسك برؤية مجردة فيها من الشك والاضطراب أضعاف ما فيها من الحق والثبوت، وأن نغض الطرف عن المراصد العالمية المبثوثة على وجه الأرض والسابحة في السماء ونأخذ بعين شخص يستخدم طرق في الترائي من العصر الحجري...؟
أرجع إلى موضوع الرد وأنا مستغرب أن تثار هذه القضية في عصر الاستنساخ والانفتاح الكوني والقدري لوسائل الاتصال المعلوماتية... عموما سأستخدم سياسة الإقصاء مع الاستغراب وسأعتبر نفسي في العصر الحجري وحينئذ سأرجع القهقرى إلى عام 2000 قبل الميلاد حتى يتسنى لنا مقارعة الدعوى، وسأتجنب الخوض في الحسابات الرياضية الشائكة التي لا تهضمها عقول الكثير من الناس حتى نصل إلى المراد بأقرب الطرق، وأطلب من الغالي عبدالله أن يصغي بعقله، وأقول: لنفرض أن رؤية هلال آخر الشهر حصلت بصعوبة بالغة جدا قبل شروق الشمس بمقدار 25 دقيقة وبما أن القمر يقترب من الشمس كل ساعة بـ 2 دقيقة. إذن 25 دقيقة تتلاشى بعد 12 ساعة... أي يكون في أحضان الشمس بعد 12 ساعة أي في وقت الغروب فكيف يُرى أيها العزيز.
إذا كان النهار قصيرا فيكون في أحضانها وقت العشاء.
وإذا كان النهار طويلا فيكون في أحضانها قبيل الغروب.
فكيف يرى هلالا وهو في أحضان الشمس قبيل غروبها أو بعيد غروبها ولم يتخلق النور في جرمه.
هذا إذا كان في حمرة الشعاع، فما بالك بمن يشهد برؤيته وقد غرب قبل الشمس بفترة زمنية طويلة؟
وأهل الفقه يقولون أنه لا رؤية لقمر غاب قبل الشمس أو غاب معها لن الأفق يكون حينئذ خالياً تماماً من القمر كما أن نصفه المواجه للأرض يكون معتما مظلما محاقا لا نور فيه...
وهناك طريقة ربما تكون أوضح، فأقول: لنفترض أن سبق القمر في يوم واحد 60 دقيقة ولا نقول 30 أو 40 دقيقة مثلا.... فمعنى ذلك أن القمر قطع 30 دقيقة للنهار و30 دقيقة لليل.
إذن من شروق الشمس إلى غروبها يكون القمر تأخر 30 دقيقة... ونقسمها نصفين فيكون.
15 دقيقة لشروق القمر قبيل شروق الشمس
15 دقيقة لغروب القمر بعيد غروب الشمس
فمعنى ذلك أن من يدعي أن القمر إذا رئي صباحا يمكن أن يرى مساء فيكون أنه رأى القمر قبل شروق الشمس بمقدار 15 دقيقة لأن القمر سار طول النهار 30 دقيقة.
فهل يعقل أن يرى القمر قبل الشروق بمقدار 15 دقيقة وهو حينئذ في حمرة شعاع الشمس؟
وكذلك أيضاً: هل يعقل أن يرى الهلال بعد الغروب بمقدار 15 دقيقة وهو لم يخرج من رحم حمرة شعاع الشمس؟
فما بالك لو أن سبق القمر ب 30 دقيقة فمعنى ذلك أنه رآه قبيل الشروق ب7 دقائق ورأى الهلال بعيد المغيب بمقدار 7 دقائق.
وإمكانية ذلك تؤدي إلى أن القمر يقطع من الفلك أكثر من 48 ساعة فيما بين المشرق والمغرب وهذا لا تؤيده المشاهدات العينية والتلسكوبية المبنية على مراقبة تحركات القمر.
ومن المعلوم عن طريق التجربة منذ العصر البابلي إلى يومنا هذا أن رؤية هلالين مختلفين في يوم واحد نقيضان لا يلتقيان وضدان لا يجتمعان لأنه يلزم من إمكانية ذلك نفي استسرار القمر في آخر الشهر والاستسرار لا يكون إلا إذا اختفى القمر يوماً أو يومين والاستسرار مجمع عليه عند المسلمين وسائر الأمم قديما وحديثا ولا يخالف في ذلك إلا شاذ ليس له برهان إلا أخبار العوام؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن استسرار القمر: (ثم يقرب من الشمس فيستسر ليلة أو ليلتين لمحاذاته لها) وشيخ الإسلام متمكن من حركة النيرين وهذا كلامه يا عزيزي.
* قال ابن قتيبة في الأنواء صفحة 130: (ولا يمكن أن يرى الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشمس وبالعشي في المغرب خلف الشمس في يوم واحد)
*وقال المراكشي في العذب الزلال صفحة 479: (فتبين بهذا أن رؤية الهلال صباحا ثم مساء في يوم واحد غير ممكنة بل هي مستحيلة قطعا، وعليه فالشهادة برؤيته مساء ترد قطعا إذا رئي صباحا في جهة المشرق قبل طلوع الشمس لوقوعها بشيء مستحيل) .
* وقال أيضا في صفحة 445: (ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يرى صباحا في جهة المشرق ثم يرى مساء في جهة الغروب أبدا) .
* وقال الشيخ عبدالله بن محمود مفتي قطر ورئيس المحاكم فيها في مجموع رسائله صفحة 371: (أما العلامات التي يعرف بها امتناع رؤيته وعدم صحة الشهادة به فمن أهمها كونه يرى صباحا فيما بين الفجر وطلوع الشمس من جهة الشرق ثم يدعي بعضهم رؤيته مساء من ذلك اليوم من جهة الغرب، فإن هذا من الممتنع والمستحيل قطعا بمقتضى الحس والتجربة والعادة الجارية في سنة الله حتى ولو كان أقوى نظرا من زرقاء اليمامة فلا تتفق رؤيته صباحا ثم رؤيته مساء من ذلك اليوم، فمن ادعاه فإنما خيل له ولم يره، فالشهادة بذلك تعتبر كاذبة لأن من شروط الشهادة كونها تنفك عما يكذبها) .
هذا تقرير بعض علماء الشرع، أما أهل الفلك فالمسألة من المسلمات التي لا تقبل الجدل.
أما وجوب رد الشهادة إذا خالفت سنة الله الجارية وقام الدليل القطعي المبني على الحسابات الفلكية على بطلانها كمن شهد برؤية الهلال قبل كسوف الشمس أو من شهد قبل تخلق النور في جرمه إليك بعضا من أقوال علماء السلف:
* قال الشيخ السبكي في فتاويه ج1 صفحة 221: (منها ما يقطعون بعدم رؤيته فهذا لا ريب عندنا في رد الشهادة به إذا عرفه القاضي بنفسه أو اعتمد فيه على قول من يثق به ويظهر أن يكتفي فيه بأخبار واحد موثق به ويعلمه أما اثنان فلا شك فيهما) .
* وقال الشيخ جمال الدين القاسمي: (إن ما يدل عليه الفن من استحالة الرؤية بإجماع أهله يوجب رد تلك الشهادة) .
* قال مفتي مصر السابق الشيخ بخيت: (فإن حساب الحاسب الراسخ في الفن إذا دل على عدم إمكان الرؤية أوجب غلبة الظن بغلط الشاهد أو كذبه بلا شبهة، فكيف يستطيع القاضي أن يقبل مع هذا شهادة هذا الشاهد؟).
* وقال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - ما نصه: (إذا كسفت الشمس بعد الغروب وادعى أحد رؤية القمر هلالا في بلد غابت الشمس فيه قبل كسوفها فإن دعواه هذه غير مقبولة.. للقطع بأن الهلال لا يرى في مثل هذه الحال فيكون المدعي متوهما إن كان ثقة وكاذبا إن لم يكن ثقة. وقد ذكر العلماء قاعدة مفيدة في مثل هذا في أن من ادعى ما يكذبه الحس لم تسمع دعواه) .
وأخيراً يا أخ عبدالله، إذا كنت تريد الحق والتثبت فدعنا نلتقي بك في ليلة الترائي ونحضر أجهزتنا الفلكية وندعو الناس للمشاركة ويكون اللقاء مصورا للتثبت، أو أن نتقابل على شاشة التلفزيون ونتناقش على مرأى ومسمع المشاهدين حتى يتمكن الناس من معرفة الأصدق أجهزتنا الفلكية أم عينك.
وإذا كانت لا تريد الظهور فدعني التقي بك عبر غرفتي بالبال توك في النت.
أقول ذلك وأنا على ثقة بأن الحق سينجلي وحتى يتمكن الناس من معرفة الحق، ولقد حدثني الزملاء في قسم الفلك في مدينة الملك عبدالعزيز أنهم استطاعوا أن يبطلوا شهادة عدد ممن كانوا يشهدون برؤية الهلال عبر السنوات المنصرمة وقيدوا ذلك تسجيلا مرئياً.
وقبل الختام أقول: لو كانت مشاهداتك مقبولة علمية ولو من سم الخياط لتهافت عليك العلماء والهواة وطلاب العلم من جميع أنحاء المعمورة ولأصبح مرصدك الحجري مزاراً شريفاً كما تهافت العلماء على أينشتاين حينما أعلن عن نظرية النسبية والعامة إبان الحرب العالمية الثانية.وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين
خالد بن صالح الزعاق
المشرف على مرصد بريدة الفلكي بمجمع الأمير سلطان للمتفوقين ببريدة |