كل متابع لتاريخ الصهاينة، وبخاصة في القرنين الماضيين، يدرك مدى قدرتهم على تنظيم إمكاناتهم المتعددة الوجوه لتحقيق مآربهم العنصرية الشريرة. ولقد بلغوا من النفوذ في العالم الغربي - وهو العالم الأهم عملياً والأقوى في القرنين المشار إليهما - ما بلغوا وإن تعرَّضوا لنكبة تمكنوا من تحويلها إلى سلاح فتاك يرهبون به كل من لا يقف معهم.
وكنت قد نشرت مقالة عنوانها: (هذا هو العصر الصهيوني)(1) اختتمها بالقول: (لعل من أوضح الأدلة على أن العصر الذي نعيش فيه الآن هو العصر الصهيوني إذ أنه يمكن أن يُسبَّ عيسى - عليه السلام - بل ويُقدح في عرضه عبر أفلام وكتابات في الدولة المسيحية التي تدين غالبتها برسالة، ولا يمكن أن يُنتقد زعماء الدولة الصهيونية على ما يرتكبون من جرائم، فكل من يطمح إلى الزعامة، أو يرجو الاستمرار فيها، لا بد أن يظهر ولاءه ومحبته لهذه الدولة المجرمة).
ثم كتبت مقالة أخرى عنوانها: (عولمة التصهين)(2)، وأشرت فيها إلى شيء من تاريخ العلاقات بين الصهاينة وقادة أمريكا، التي تشن حرباً لا هوادة فيها لغرض عولمة ما تريد على العالم، واختتمها بالقول:
(إن موقف قادة أمريكا المعادي للشعب الفلسطيني والأمة العربية المسلم لم يقف عند حد دعمهم للكيان الصهيوني والدفاع عن الجرائم التي يرتكبها؛ بل إن هؤلاء القادة أخذوا يفرضون على الدول الأخرى أن يتبعوا آثارهم دفاعاً عمن يرتكبون حرب إبادة وجرائم ضد حقوق الإنسان، وعداء لمن يدافعون عن أنفسهم ووطنهم وممتلكاتهم. وأصبح على الآخرين أن يصفوا هؤلاء المدافعين المقاومين بأنهم إرهابيون.. ولو اقتصر الأمر على أن الذين أطاعوا الأوامر بوصف هؤلاء بهذا الوصف هم الذين امتلك نفوسهم الخور والخوف من سيدة العالم، سطوة أو منعاً لمعونة، لهان وخفَّ وطأة. لكن هذه الأوامر أخذت تطاع من قبل دول لها وزنها.. ولم يعد أمام العالم، شرقه وغربه، جنوبه وشماله، إلا أن يظهر تجاوبه صاغراً استجابة لما يريد الصهاينة وهكذا تمت عولمة التصهين).
وأكتب الآن ما أكتب وأنباء الأحداث المتصلة مباشرة بالموضوع المكتوب عنه تتوالى من كل اتجاه. فجرائم الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني تزداد عنفاً يوماً بعد آخر، كما هو متوقع في ظلِّ مرض أمتنا المزمن، وبيان منظمة (مراقبة حقوق الإنسان) الذي أدان جرائم ذلك الكيان، وعدها منافية لحقوق الإنسان، ما زال صداه يتردد في الآفاق، فيريح المنصفين في العالم عاطفياً، ويشكرونه، وإن كان عملياً - مثل غيره من كثير من البيانات والقرارات المنصفة - غير ذي مردود ايجابي ما دامت أمريكا، سيدة العالم المتحكمة في قيادته بدرجة كبيرة، تقف بكل صراحة وبجاحة مع مرتكبي تلك الجرائم بحق الشعب الفلسطيني.
والانتخابات الرئاسية في أمريكا على الأبواب، وكل مرشح (عاض شليله) يلهث وراء اقتناص العبارات التي يبرهن فيها على أنه الأعظم إخلاصاً ومودة للكيان الصهيوني.
ومن المعروف ما يوجد من غرام بين امريكا وإسرائيل. ومن آيات ذلك الغرام -وهي آيات لا تُعد ولا تُحصى - أن أمريكا فتحت أبواب بلاد الرافدين العظيمة، التي نكبت باحتلال قواته لها استكباراً في الأرض وعدواناً، على مصاريعها أمام عصابات الموساد الصهيونية لتنهب ما أرادت نهبه من آثار تهمها، وتشترك في استجواب المعتقلين العراقيين وتعذيبهم في سجن أبو غريب. ومنها القوات المحتلة للعراق المنكوبة أخذت تتَّبع في تعاملها مع المقاومة العراقية لاحتلاله، وبخاصة مع أهل الفلوجة وما حولها، الأسلوب الإجرامي الذي يتبعه زبانية شارون في فلسطين المحتلة في تعاملهم مع المقاومة الفلسطينية التي تضرب أروع الأمثلة صبراً وشجاعة.
وها هو الرئيس بوش أخيراً يتبنى مشروعاً يصنف بموجبه دول العالم حسب مواقفها مما يسميه: اللاسامية وما هذا في الحقيقة إلا محاولة لسد الباب أمام أي نقد للكيان الصهيوني المستمر في ارتكاب جرائمه ضد حقوق الإنسان الفلسطيني، فكما وُصِف المقاومون الفلسطينيون المدافعون عن نفوسهم، وأعراضهم وأرضهم بأنهم إرهابيون سوف يوصف كل من ينتقد جرائم الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني بأنه ضد السامية (ولا تسل عن مدى صحة حصر السامية على اليهود فكم طمست الحقائق)!.
وإذا كان واقع الأمور يدل على أن أمريكا هي العامل الخارجي الأهم في تمهيد الطريق أمام الصهاينة للوصول إلى القمة التي وصلوا إليها حتى الآن فهل هي الدولة الوحيدة في هذا الشأن؟
لا. ليست أمريكا هي الدولة الوحيدة، لكنها الدولة الأهم، إن رجال دول الغرب، بعامة، كأنما كتب عليهم أن يظهروا ولاءهم للصهاينة، ويندر أن توجد دولة من تلك الدول دون أن يكون لها رصيد من الولاء لهم قل أو كثر نصيباً تحتمه الظروف الآنية لكل دولة. وكانت الحلقات الثلاث الماضية من مقالات كاتب هذه السطور عن شيء من تاريخ التصهين البريطاني.
أما فرنسا فلم يقصر كثير من رجالاتها في إظهار ولائهم للصهاينة، وقد كسب هؤلاء رجال الثورة الفرنسية إلى جانبهم. ثم أتى نابليون الذي كان أول رجل دولة غربي يقترح، عام 1799م، اقامة دولة يهودية في فلسطين. وأقام الصهاينة كيانهم في هذا الوطن العربي المسلم على أشلاء حقوق أهله عام 1948م. وبعد ثمانية أعوام فقط من ذلك التاريخ المشؤوم اشتركت مع الدولة الصهيونية وبريطانيا في عدوان ثلاثي على مصر كان من نتائجه الواضحة للصهاينة استيلاؤهم على مزيد من أرض فلسطين، وترسيخ لاغتصابهم ما سبق أن اغتصبوه منها، ثم مرت سنوات وهي الممد للكيان الصهيوني بطائرات الميراج الحربية المتقدمة حينذاك، بل كانت عونه وسنده في إنشاء مفاعله النووي في صحراء النقب. والغريب - وإن أصبح كل شيء غير مستغرب - أن بلداً قامت ثورته المشهورة على أسس في طليعتها حرية الرأي أصبحت تلك الحرية تصادر فيه إذا كانت لا توافق موافقة كاملة هوى الصهاينة. ومن أدلة ذلك أنه حدث قبل عدة سنوات أن درس باحث فرنسي ما حصل لليهود من مجاذر على ايدي النازيين، وتوصل نتيجة البحث والتدقيق إلى أن الأعداد التي قضى عليها النازيون كان مبالغاً فيها، ومنحت الجامعة الفرنسية التي قدم إليها البحث ذلك الباحث درجة الدكتوراه التي كان يستحقها، لكن لم يمض شهر على ذلك حتى أتى وزير التعليم الفرنسي نفسه إلى تلك الجامعة، وعنف مسؤوليها، وسحبت تلك الدرجة من الباحث. وما حدث للجارودي أمر مشابه لما حدث لذلك الباحث وإن فاقه انتشاراً إعلامياً نظراً لمكانة الجارودي الفكرية. وقبل أيام صدر مساعد الإذاعة الفرنسية كتابه الثاني، وهو عن الجدار العنصري الذي تقيمه الدولة الصهيونية، ولأنه قال فيه: إنه جدار يدل على سياسة عنصرية أجبر في دولة حرية الرأي المحترمة على الاستقالة من منصبه. والمتوقع أن يرى العالم كل يوم مزيداً من تكميم الأفواه التي يحاول أصحابها أن يقولوا كلمة حق وإنصاف تجاه كل ما ترتكبه الدولة الصهيونية من جرائم. وما دام المتصهينون في البلاد الغربية، وبخاصة أمريكا، يزدادون عدداً، والعرب والمسلمون يزدادون تمزقاً واستخذاء فإن من غير المتوقع عدم سير الأمور من سيء إلى أسوأ.
|