كنت في مقالة الأسبوع الماضي قد أشرت إلى أن أسباب الشرود تعود إلى عدة أمور قد تكون متناقضة، فقد يكون الشارد فيلسوفاً يحمل هم العالم على كاهله أو يكون ذا مال يحسب للدنيا ألف حساب، أو يكون مهموماً ذاهلاً من مآل أحوالنا نحن العرب هذه الأيام.
مثال ما ذكرته هو زميلنا السوداني الرائع (عبدالباسط الشاطرابي) فقد ثبت لي وبظن بريء أنه عبقري، فبعد عودته من السودان وقرب الزاوية الجنوبية الغربية من الدور الأول في (الجزيرة) مر بي صديقنا (عبدالباسط) وكأنه طيف عابر. حيَّاني بحياد لم أعهده به من قبل وصافحني بفتور يؤكد لي أنه بعيد عن عالمنا تماماً. ولضيق الوقت وملاحقة العمل لم أعلق رغم أنني فكرت بأمر هذا الشرود الذي يتلبس صديقنا الذي نتبادل معه الاحترام والمودة والتقدير دائماً. ليومين ظللت أقلب فيهما الأسئلة عن سر ذهول السيد (الشاطرابي) وبما جاءني من أجوبة من الأصدقاء عن تخمينات مطمئنة حول شرود الزميل المثقف الرائع الذي تشغله بلا شك هموم الأمة.. لكن ما سر هذه الهموم المضاعفة، بعدها وعلى الباب الرئيسي قابلني. وبروعة الود المعتاد حياني. أكدت له بالفعل أنه عبقري فعلاً وإلا ما كان له أن يكثر الشرود في الفترة الماضية، فمن عادة العباقرة أن يذهلوا، وتشرد عقولهم كالوعول في فلوات الكون والوجود.
ما كان مني - أيضاً - إلا أن بحت للزميل بسؤال يعكس حاجتي للإجابة: لماذا يزداد شرودنا هذه الأيام، وتتشعب هواجسنا وتتوه أفكارنا؟ فإما أن نكون جميعاً في العالم العربي فلاسفة وعباقرة، أو أننا نعاني من ذهول وأهوال الانتكاسات المؤلمة على كل الأصعدة..؟
|