*حنان بنت عبدالعزيز آل سيف:
(ماري بنت إلياس زيادة)، علم بارز، وتاريخ أدبي حافل، وعبقرية فذة، وطموح شامخ، أديبة كاتبة نابغة، كانت من ركائز النهضة العربية الأدبية الحديثة، ظهرت في زمن خلا من مثيلاتها من النساء، فلفتت أنظار أعلام عصرها فكراً وعلماً وثقافة وخطابة وأسلوباً مميزاً في وقت كانت المرأة بمنحى عن العلم والثقافة، فخلبت لبَّ الأدب، وضربت فيه بسهم وافر، ففازت بمكانة عظمى، ومنزلة عليا.
فاستقطبت أنظار الأدباء، وحازت إعجابهم، واستأثرت على احترامهم، تجلى هذا واضحاً في ندوة الثلاثاء والتي كانت تعقدها في بيتها، وتديرها بنفسها، وضيوفها هم أعلام العصر، وأعيان الزمان، وأفذاذ الرجال، وما ظنك بندوة تجمع بين أدباء بارزين أمثال: عميد الأدب العربي طه حسين، وعباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم، ويعقوب صروف، وأمين الريحاني، إسماعيل صبري، وولي الدين يكن، وشبلي شميل، وغيرهم من الأدباء والمفكرين والأمراء والعلماء.
بدا النبوغ واضحاً بيناً على مي منذ تفتُّق بواكيرها الأولى، فقد عُرف عنها في سنيها الأولى حينما كانت في المدرسة أنها كانت تقضي وقت فراغها بعيداً عن ثرثرة الزميلات في مطالعة كتاب، أو التأمل في الطبيعة وتقليب النظر في مواطن جمالها وروعتها، وللأديبة مي زيادة كلمة رائعة حول النبوغ والعبقرية إليك بها:( وإذا كنت عبقرياً، كن سعيداً فقد تجلى فيك شعاع ألمعيّ من المقام الأسنى، ورفعك الرحمن بنظرة انعكست صورتها على جبهتك فكراً، وفي عينيك طلسماً، وفي صوتك سحراً، والألفاظ التي هي عند الآخرين أصوات ونبرات ومقاطع صارت بين شفتيك وتحت لمسك ناراً ونوراً تلدغ وتضيء وتحرق وتهنئ وتخجل وتكبر وتذل وتنشط وتوجع وتلطف وتسخط وتدهش).
وُلدت هذه الأديبة الكبيرة في مدينة (الناصرة) بفلسطين من أصل لبناني سنة 1886م، حيث كان والدها من أهل كسروان بلبنان، تلقت دروسها في إحدى المدارس الابتدائية ثم في مدرسة (عنيطورا) وانتقلت مع أبويها إلى مصر، حيث استهلت هناك حياتها الأدبية والكتابية فمارست التحرير في جريدة (المحروسة) وفي مجلة (الزهور) وأحسنت إلى جانب اللغة العربية لغات أخرى كثيرة كالفرنسية والانكليزية والإيطالية والألمانية، تقول الأديبة اللبنانية الرائدة (ناديا الجردي نويهض) في كتابها.. نساء من بلادي):( في القاهرة.. بدأت مي تتعرف على بيئتها الجديدة، التي كانت من نخبة المفكرين والأدباء أمثال يعقوب صروف صاحب المقتطف الذي أحاطها بعناية أبوية، وأحمد لطفي السيد الذي أطلعها على كنوز العربية، وحبب إليها لغة الضاد، وفي الجامعة المصرية درست التاريخ والفلسفة والفلك القديم والعلوم العصرية، وأمام هذا التبدل الحياتي والعلمي المفاجئ بدأ التساؤل الغامض يخترق فكر الصبية في إلحاح مستمر من نحن؟ إلى أين نحن سائرون؟ وأين ننتهي؟ وكانت تردد:( إنما حياة الإنسان على الأرض جهاد مستمر كونها محض عبور، على أننا نموت في ذاتنا كل يوم). بدأت مي تخترق أبواب الصحافة، تلجها بإرادة الشباب ووعي العقلاء والمفكرين، تكتب تنقد تترجم، ثم تبدل اللوحة البراقة في فن وطيب وشذى، يوماً توقع بإسم (أزاهير الأحلام)، عائدة في يوميات لها (مشوقة)، إيز يس كوبيا) وقد لاقت مقالاتها ترحيباً في كبريات الصحف والمجلات.
كان صالونها الأدبي المعقود كل يوم ثلاثاء في بيت والديها رقم 28 شارع المغربي في القاهرة، ملتقى النوابغ من أرباب العلم وقادة الرأي، وقد قال أحمد شوقي فيها:
أسائل خاطري عما سباني
أحسن الخلق أم حسن البيان
وقال آخر:
إن لم أمتع بميّ ناظري غداً
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
لقد كتب عنها العقاد قائلاً:( لقد وُهبت مي ملكة الحديث في طلاقة ورشاقةً أحاط ميّ في صباها وطوال مدة شعاعها الفكري والأدبي خيرة ومن أدباء العرب والأجانب، وكان الكثير بينهم يطمح إلى نيل اعجابها والظفر بمودتها إلا أن مي كانت تزايد عليهم بشرفها المصون وعزمها على الإفادة والاستفادة دون النظر إلى أبعد من ذلك، وفرضت احترامها على الجميع حيث كانوا ينظرون اليها وإلى صالونها الأدبي نظرة الحج الفكري ويقدسون صورته الأسطورية، أما علاقة مي زيادة بجبران خليل جبران التي اقتصرت على الرسائل المتبادلة بينهما من وراء البحار أي بين القاهرة والولايات المتحدة، فإن بعض هذه الرسائل توضح لنا نوعية تلك العلاقة وتطورها من إعجاب فصداقة، ثم حب مكبوت وحب صريح أجهض جميع محاولات اللقاء بين قمتي الأدب والفكر).
وحبُّ الأديبة ميّ زيادة لأديب الشرق العربي خليل جبران حب تصف لواعجه وأحاسيسه قصيدة أبي فراس الحمداني الخالدة والتي يقول فيها:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهى عليك ولا أمر؟
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذ الليل أضواني بسطتُ يد الهوى
وأذللتُ دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والهجر
والفرق اليسير بين حال الحبين أن حب أبي فراس الحمداني فيه هجر، أما حب (ميّ) فلا هجر فيه.
وللأديبة سلمى الحفار الكزبري دراسة وافية عن أديبة الشرق العربي (مي زيادة) تقع في مجلدين وهي لا تدع مجالاً لمستزيد حول حياة ميّ من المهد إلى اللحد، وقد عنونت لها بعنوان جميل وهو:( مي زيادة أو مأساة النبوغ) وجاء في مطلع الدراسة كلمات مؤثرة نصها الآتي:( النبوغ والمأساة كلمتان تختصران حياة مي زياده في شروقها وغروبها، قدر رحيم وقاس رفع هذه الأديبة الرائدة إلى قمة المجد ثم أرداها إلى هاوية الشقاء، كاتبة فذة أعطت للأدب والنهضة العربية الحديثة عمرها كله ولم تحصل على شيء إلا على أرفع مكانة في تاريخ الأدب العربي، نابغة شقيت بنبوغها كما لم يشق به أحد غيرها عبر العصور، أحاط بها عظماء عصرها وعلقوا على هامتها إكليل المجد وجفاها أهلوها ثم جاراهم كثير من أصدقائها بعد أن أدبر سعدها، مما يدعو إلى القول: إن من المفارقات العجيبة في بلادنا أن نحارب النبوغ ويُهان صاحبه).
والفرح في حياة الأديبة (مي زيادة) نزر يسير فقد فجعت منذ طفولتها بموت أخيها الوحيد، ثم تألمت في المدرسة الليلية التي قضت فيها أربع سنوات من يفاعتها في (عينطورا) ثم فقدت أبويها وظلت وحيدة.
وفي كتاب الأديبة سلمى الكزبري السالف الذكر فصل بعنوان (أحزان مي) تحدثت فيه المؤلفة عن محنة أديبة الشرق العربي فقالت:( توالت المصائب علي ميّ في غضون ثلاثة أعوام فقدت أباها فجأة إثر نوبة قلبية أودت بحياته، وفقدت جبران إثر مرض عضال أنهك قواه وهو في الثامنة والأربعين من العمر، ثم ماتت أمها، ثلاث صدمات متتابعات، سودت الدنيا في عينيها وتركتها وحيدة في معترك الحياة فجزعت وأي جزع، وحزنت حزناً غير مألوف، بل لجت في الأحزان، فاستبدت بها الأحزان)، وكان من أثر هذه المصائب الثلاث اضطراب نفسي ألمَّ بها، ولم تصل المسألة إلى حد الجنون ويأتي صوت المؤلفة ليضع الفصل في هذه المسألة التي اضطرب فيها الكثيرون حيث قالت:( مما لا ريب فيه أن ميّ لم تكن مجنونة، ولم تُجَنّْ في يوم من الأيام، وأن ما أصابها من اضطراب نفسي هو حالة طارئة ظهرت بوادرها بعد وفاة والديها وجبران في سنة 1932م، فكافحتها بشجاعة؛ تكتب وتسافر، ولكنها تفاقمت في أواخر صيف سنة 1935م لشد ما كابدت من آلام الوحدة والأحزان، وما واجهت من مشكلات عائلية لأسباب مادية، وما اضطرت لحمله من مسؤوليات وهموم لم تكن مستعدة لحملها، ولم تخطر على بالها من قبل).
ولم تكن الأديبة ميّ زيادة هي الوحيدة التي أصيبت بانهيار عصبي ممن يُشار اليهم بالبنان، فقد عانى من هذا المرض كثيرون من مشاهير العلم والأدب، منهم على سبيل المثال: ادغار ألن بو، وبودلير، ورامبو، وبايرن وغيرهم من المشاهير الذين يتصفون ويتسمون برهافة الشعور ورقته، وسرعة التأثر، ثم هم طائفة من البشر يعجزون عن مجابهة الأزمات العسيرة العويصة التي تعترض حياتهم، ثم إن أديبة الشرق مي زيادة عانت الويلات تلو الويلات من جراء هذا الاضطراب النفسي، وذلك حينما زج بها أقاربها في العصفورية بلبنان، وبعد حياة حافلة بالعمل الدؤوب ماتت وحيدة في غربتها عن لبنان عام (1941م) وتوفيت وهي ترفل في الخامسة والخمسين من سني عمرها الحافلة بالأمل والطموح والأحلام والتفاؤل.
وياميُّ هذي غاية الحمى فانعمي
بمجد تسامى ليس ياميّ فانيا
وذكرى تُرى الأجيال أنى تعاقبت
مثالاً من العلياء فات الدراريا
فهذا وفاء من بني مصر خالص
وهذا ثرى مصر يضمُّك حانيا
ولمىّ خط جميل يتسم بالدقة والوضوح والجمال والرشاقة، ومن خصائص أدب ميّ استعذاب الألم، والانصهار في تأمل الطبيعة، والشوق إلى اقتحام المجهول، وصدق العاطفة في أثناء البوح بالمشاعر، وسعة الخيال، وتصف الأديبة سلمى الكزبري قصائدها بقولها: (ليست قصائدها موزونة مقفاة كلها على قواعد الشعر الفرنسي الكلاسيكي، ولكنها لا تخلو من الايقاع الموسيقي لتعمد في اختيار كلمات الروي مطابقة في الجرس في أكثر القصائد).
وخلَّفت ميّ إرثاً أدبياً عظيماً ومنه:
(سيرة باحثة البادية ملك حفني ناصف)، وردة اليازجي، عائشة التيمورية، رجوع الموجة، بين المد والجزر، التوهج والأفول، سوانح فتاة، ظلمات وأشعة، ازاهير حلم، كوبيا عائدة، كلمات وإشارات، رواية بعنوان الحب العذري، يتناقشون، ودرس في اللغة والأدب والصحافة، ابتسامات ودموع، كتاب المساواة، وختاماً تقول الأديبة (ناديا الجروي نويهض): نحني لها هامة الإعجاب، مقدرين أدبها، منفذين بعض تمنياتها علينا بوصيتها التي وجهتها إلى الدكتور يعقوب صروف في شباط 1919 القائلة:( أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الإخلاص والصدق والحمية والتحمس لكل شيء حسن وصالح وجميل، لأنه كذلك، لا عن رغبة في الانتفاع به) هذه أمنية ميّ العظيمة، وهل باحت لنا بكل أمانيها؟
إن الأمنية الكبرى ظلت سراً بينها وبين نفسها.. أليست هي القائلة: وهل تصدق أن المرء يبوح للناس بأعظم أمانيه؟ إن الأمنية الكبرى تظل سراً بينه وبين نفسه).
تلكم هي (مي إلياس زيادة) أسطورة خالدة، وبركة من بركات الأدب، وأفق إنساني رحب فسيح عميق متطاول.
مصادر الترجمة:
عمر رضا كحالة، أعلام النساء، بيروت، مؤسسة الرسالة، (5-5-8).
- خير الدين الزركلي، الأعلام (5- 253).
- رضوان دعبول، تراجم أعلام النساء، الطبعة الأولى، بيروت، مؤسسة الرسالة، سنة 1419هـ - 1998م، ص (410)
- محمد التونجي، معجم أعلام النساء، الطبعة الأولى، بيروت، دار العلم للملايين، سنة 2001م، ص (170).
- سلمى الحفار الكزبري، مي زيادة أو مأساة النبوغ، الطبعة الأولى، بيروت، مؤسسة نوفل، سنة 1987م.
- ناديا الجردي نويهض، نساء من بلادي، الطبعة الأولى، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سنة 1986م، ص (131-1379.