أن تقف ضد السياسة الإسرائيلية، أو حتى أن تختلف مع سياسات شارون، معنى ذلك أنك (معاد للسامية)، هذه بمنتهى الإيجاز التهمة الجاهزة، والمعدة سلفاً، لكل من يحاول النيل من هذه السياسات حسب القانون الأمريكي الجديد (معاداة السامية) الذي مرره مؤخراً الكونجرس، ووقعه قبل أيام الرئيس الأمريكي جورج بوش، ويلزم هذا القانون وزارة الخارجية الأمريكية بمراقبة ورصد ظاهرة معاداة السامية، وإنشاء مكتب وممثل لها لمتابعة تنفيذ هذا القانون في أرجاء العالم.
ومصطلح (السامية) مفهوم ذو جذور توراتية كما يزعم اليهود. حيث تنقسم الأجناس البشرية في خطابهم الديني إلى ثلاثة أقسام: الساميون والحاميون واليافثيون. ورغم أن العرب استناداً إلى هذا التصنيف هم (ساميون) أيضا، غير أنهم استبعدوا تماما من دلالات هذا المصطلح، وتم حصر السامية كعرق في اليهود دون غيرهم. إضافة إلى ذلك فلم يعد هناك تمييز بين معاداة اليهود على أساس عرقي أو ديني، وبين معادة إسرائيل ككيان ودولة. ليصبح أي خلاف مع (إسرائيل)، يصنف باعتباره عداء عنصريا لليهود.
صحيح أن هذا القانون صدر في حمى الانتخابات الأمريكية، وتحت وطأة تنافس الحزبين الرئيسيين على الفوز بالمقعد الرئاسي، واستقطاب الصوت اليهودي الأمريكي، غير أن هذا القانون سيكون (ملزماً) لأي إدارة قادمة. ومن نافلة القول إن الإسرائيليين بارعون في العمل من خلف الكواليس لتفعيل معطيات مثل هذا القانون بما يخدم مصالحهم؛ فسوف يتخذونه - حتماً - ذريعة لإسكات أي صوت معارض لهم، وبالذات تلك الأصوات المعارضة للممارسات التوسعية الإسرائيلية. فقد جاء في (حيثياته) بالنص أن معاداة السامية حول العالم ظاهرة تصاعدت في الأشهر الماضية، ففي استراليا تقول ديباجة القانون أنه كتب على أحد الجدران كلمات معادية لليهود!!؛ وفي روسيا هدمت شواهد 50 قبراً يهودياً فيها!!؛ وفي كندا كتبت شعارات نازية على جدار إحدى المدارس اليهودية!!. إضافة للتأكيد على تزايد معاداة السامية في العالمين العربي والإسلامي؛ كقيام دور نشر حكومية بطباعة كتب معادية للسامية، وكإقدام التلفزيون المصري الممول حكوميا بعرض مسلسل (فارس بلا جواد) الذي كتبت قصته من وحي (بروتوكولات حكماء صهيون)، أو مسلسل (الشتات) على شاشة قناة (المنار) الفضائية اللبنانية. ورغم تفاهة وسذاجة وتهافت الأمثلة والشواهد التي تضمنها القانون كمبررات، إلا أننا مضطرون للتعامل معه بجدية، بعيداً عن مدى قناعتنا بوجاهته من عدمها.
وهذا القانون لا يمكن فهمه بمعزل عن قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي يطالب سوريا بالانسحاب من لبنان. غير أن الخطاب السياسي المصاحب (ضمناً) لقرار مجلس الأمن، والصادر من دوائر صناعة القرار السياسي الأمريكي، يدينها بالكثير من الاتهامات مثل دعم الإرهاب، وامتلاك ترسانة من الأسلحة الكيماوية، والتحالف مع المتطرفين، الذي يصر الأمريكيون ومن ورائهم الإسرائيليون على أن سوريا سهلت لهم عبور أراضيها إلى العراق للقيام بأعمال (إرهابية) ضد قوات التحالف هناك. وفي تقديري أن هذا القانون، إذا أخذنا ذلك القرار في الاعتبار، يحمل من المؤشرات ما ينذر بالكثير من المخاطر التي سيحملها المستقبل القريب للعرب، وللسوريين على وجه الخصوص، وليس هذا الإجراء الذي يحمل صفة (قانون) إلا بمثابة أول القطر!.
كما أن خطورة هذا القانون تكمن في أن الإسرائيليين سيستغلونه حتى آخر نقطة حبر فيه (كمخلب قط) في وجه كل من اختلف معهم، ابتداء من العرب وحتى الأوروبيين أنفسهم مروراً بكل دول العالم. كما أنه سيضطر الدبلوماسية الأمريكية رسميا لتقمص دور (المحامي) عن إسرائيل وعن سياساتها، ونهجها التوسعي والعدائي، ما سيكرس في الذهنية العربية والإسلامية ظاهرة (العداء لأمريكا) التي هي المنهل الرئيسي الذي ينهل منه الإرهاب؛ وغني عن القول أن قانونا كهذا سيصب بكل تأكيد مزيداً من الزيت على النار، مؤججاً حالة العداء والكراهية لأمريكا، وداعماً للإرهاب. ولا يمكن لأحد أن يقنعني أن من (مصلحة) أمريكا، فضلا عن أخلاقيات الديمقراطية، أن تعادي أكثر من ألف مليون مسلم لتكسب إسرائيل فقط. غير أن القضية في نهاية المطاف ذات أبعاد وتشعبات متشابكة ومتداخلة، تخرج بأمريكا من إطار الديمقراطية ومصلحة أمريكا العليا، لترمي بها في أحضان (قوى الضغط) المهيمنة على صناعة القرار السياسي الأمريكي، بعيداً عن مصالح الولايات المتحدة مثلما هو معروف. وهذا هو أس بلائنا في التعامل مع الأمريكيين.
وسيظل الأمريكيون، ومعهم دول العالم أجمع، في صراعهم مع الإرهاب في حالة من حالات (اللا نصر واللا هزيمة)، حتى يقتنعوا أن القضاء على الإرهاب يبدأ - أولاً - من القضاء على دوافعه وأسبابه. وطالما أنهم في غيهم يعمهون، كما يشير هذا القانون الجديد بكل وضوح للأسف، فستبقى ظاهرة الإرهاب تستنزفهم وتقض مضاجعهم، بل ومضاجع العالم من أقصاه إلى أقصاه، حتى تصبح العدالة والموضوعية، بل ومصالح أمريكا العليا لا مصلحة إسرائيل، هي الباعث والمحرك الرئيس للسياسات الأمريكية في التعامل مع قضايا شعوب العالم، ومنها شعوب المنطقة.
|