Saturday 23rd October,200411713العددالسبت 9 ,رمضان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

أنماط بشرية مذهلة أنماط بشرية مذهلة
فاطمة عبد الرحمن السويّح / الرياض

كلما خبرت الحياة، وعبرت دهاليزها ومسالكها المزهرة حيناً، والشائكة أحياناً، ازددت يقيناً أن المخلوق البشري هو أعظم بدعة أبدعها الخالق سبحانه تستطيع أن تراها على سطح البسيطة، فتنوع أنماط الناس ومشاربهم يجعلك تقف مذهولاً من قدرة هذا الكائن على التنوع والاختلاف رغم التشابه الواضح في البنية المادية المحسوسة له، فتجد الخيّر والشرير، وترى ذا الوجهين، وتدهش حين ترى ذا الألف وجه، وغيرها كثير.
إن هناك شخصيات يعبق أريجها فيمن حولها، فيدركك عبيرها حتى قبل أن تصل إليها، وحين تلتقي بها، لا تملك إلا أن تحتفظ لها داخلك بموقع من المحبة والاحترام يسكنك طالما حييت. وبعض الأشخاص يذهلك بتلونه حسب الوضع الراهن، فهو طوع بنانك طالما الدنيا معك، ولو أدبرت عنك الدنيا يوماً، تراه ممسكاً بأذيالها، منصرفاً معها حيث تذهب، وهؤلاء تجدهم في كل مكان، حتى لم تعد تدهش حين يبرزون لك هنا أو هناك، وبفضل من الله فإنهم يتساقطون من الذاكرة كما تتساقط أوراق الخريف، دون أن يشكل وجودهم أو اختفاؤهم أي أهمية.
وهناك من الأشخاص من يصنع حوله هالة من الضجيج، وموكباً من الألق الاجتماعي، لكنه يسقط من حساباتك عند أول اختبار حقيقي له معك، وسرعان ما يعود لبريقه الكاذب، لكنك تجد نفسك وقد تحصنت ولم تعد ترى في هذا البريق أكثر من الزيف.
ومن أغرب الشخوص التي يمكن أن تراها، وهي نادرة - ويسعدنا أنها كذلك - ذلك الذي يحب أن يتخذ منك مطية للصعود الاجتماعي، فحين ترفض أن تنحط أخلاقياتك لمستوى تفكيره، يعتقد - غباءً أو حمقاً - أن هذا لضعف في شخصك لا حلماً وترفعاً، فيبدأ بممارسة حيل قذرة بهدف إحراجك أو استصغار شخصك، ظناً أن هذا سيكسبه الاحترام الذي يفتقده، فيمارس ذلك مرة أو مرتين أو أكثر حسب قدرتك على الاحتمال، وما أن تمنحه ركلة صغيرة حتى يتبعثر، ويحاول التمسح بك كالحمل الوديع، لكنك تظل مركزاً بصرك على تلك الأفعى القابعة بداخله مهما بالغ في إخفائها.
وشخصيات أخرى تؤازرك طالما كان مسار مصالحك موازياً لمصالحها، وعند أول تقاطع لمساريكما يُطلق وبملء فيه حكمته التي اتخذها نبراساً لحياته (أنا ومن بعدي الطوفان).
ومن الشخصيات الرائعة والنبيلة التي تنتشر حولنا في كل مكان، شخصيات تسكن في الظل، وتعمل بصمت متمثلة قوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا)، وهؤلاء هم خير من تلجأ إلى دفء قلوبهم حين تثقلك الحياة بأعبائها، وتنقطع بك السبل وتتساقط من حولك الأقنعة، فتجد قلوبهم دوماً مشرعة لك دون منة أو ملل، ويحز في نفسك ألا - يوضعوا في الموضع الذي يستحقون، وتظل تحمل لهم أنبل المشاعر، وإن لم تتمكن من رد صنيعهم.
وهناك أيضاً تلك الفئة التي قد تعدها جزءًا لا يتجزأ من كيانك، وتظن العالم سيبدو خاوياً من دونهم، وتفاجأ بهم يتبخرون عند أول اختبار، وتذهل تماماً حين لا يترك اختفاؤهم داخلك أي فراغ.
وآخرون - وتعرفهم بسيماهم - مثل الذباب يتهافتون عليك عند كل كبوة فرحين مهللين إن رأوا ما يسوؤك، أما إن زل لسانك ذاكراً أمراً يسعدك، فسرعان ما تكفهر وجوههم وتتجهم، حتى أن بعضهم قد يغلبه لسانه - رغم احتياطه - فتنطلق منه كلمة تبرز سوء نيته وخبث طويته، وهؤلاء تحركهم الغيرة المذمومة، فيكابدون ويبذلون الغالي والنفيس لتهميش قدراتك واستصغار عملك وشخصك في عيون الناس، لكن أمرهم ينكشف حتماً، فالله تعالى ستّارٌ كريم يستر نواياهم الخبيثة حتى تصبح ديدناً لهم في الحياة فيفضحهم، وما أن يفتضح أمرهم حتى يسقطوا من عيون الآخرين ومن قلوبهم وإن تملقوهم مخافة شرورهم.
وهناك من تشعر ببرودة عارمة عند رؤيته من بعيد، حيث يضع حاجزاً سميكاً يمنع الآخرين من رؤيته بوضوح بسبب تعرضه لتجربة صادمة، أو تخوفه من الوقوع في براثن الأنماط السيئة مما سبق ذكره، لكنك ما أن تعرفه عن كثب حتى تدرك مدى الشفافية التي يتمتع بها، ومقدار العمق الفكري والأخلاقي الذي يحظى به، فتعلم حينها أن له من الأسباب ما يبرر وجود هذا الجدار السميك بينه وبين الآخرين من حيث اكتفائه الذاتي، ورغبته بالمحافظة على مكتسباته الشخصية النادرة، لكنك وافر الحظ إن سمح لك باختراق مناطق العقلية والوجدانية المحظورة، إذ ستحظى حينها بتجربة ثرية، وعوالم من الفكر المهذب مختزلاً في شخصية واحدة.
وكذلك ترى من حولك شخوصاً تجبرك الحياة على التعامل معهم فتحبهم وتشعر بأهمية تواجدهم فيها، لكنك تبقى محافظاً على مسافة ما بينك وبينهم، تخوفاً من تلك اللحظة التي قد يحدث فيها تقاطع للمصالح بينك وبينهم، فترى فيهم ما يترك ندبة دائمة داخل روحك تأبى أن تندمل لأنك ستكون مضطراً - رغم كل شيء - إلى معاودة التعايش معهم من جديد.
وهناك من الأشخاص من تراهم هاشين باشين طالما لم يرك خصومك معهم، وفجأة تختفي ابتسامتهم، ويهرولون مبتعدين عنك في لحظة، وسرعان ما يزول اندهاشك حين ترى خصمك مقبلاً من بعيد، فتراهم وقد استبدلوا في طرفة عين وجوههم المزيفة بوجوه أخرى يصطحبونها معهم أينما حلوا لاستخدامها عند اللزوم، عندها يتجسد أمامك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث متفق عليه: (وتجدون شرّ الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه).


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved