عندما وصلت إلى خان يونس في 8-5-2001 جئت لأحمل بين يدي ذلك الجثمان، كتلة اللحم الصغيرة للطفلة الشهيدة إيمان حجو ابنة الأربعة الأشهر التي مزقت قذائف الاحتلال ظهرها وجعلت منه أشلاء.. سجيتها في القبر وكأنني أسجي ابنتي.. حملت ريشة بين يدي ولكنني شعرت بأنني أحمل ثقل الألم والظلم والمعاناة الفلسطينية التي تجمعت كلها في عيون طفلة أبى وحش الاحتلال إلا أن يقطع عليها طريق الحياة.
وقبل أيام شيَّع الآلاف في جنازة غاضبة جثمان إيمان الهمص ابنة الثالثة عشرة التي مزقت 22 رصاصة جسمها الطاهر وهي في طريقها إلى المدرسة في محور صلاح الدين في رفح، كانت تلك رصاصات قنَّاصة رأوها من بعيد تحمل حقيبتها وتلبس زيها المدرسي، راقبوها في عدستهم فطلبوا الإذن : إنني أرى طفلة تحمل حقيبة.. شعر بخوف.. إنها تتقدَّم.. ويأتي الرد الحاسم ل(محاربة الإرهاب) بالموافقة فتنطلق رصاصات قاتلة من ثلاثة مصادر للنيران.. لقنَّاصين.. تهرب إيمان وتلقي حقيبتها الممزقة، يطلقون النار عليها من الخلف.. أصيبت إيمان.. يصل إلى المكان قائد الوحدة وعدد من جنوده.. فيرى أنها ما زالت تتحرك.. يطلق عليها رصاصتين ليتأكد من نجاح مهمة القتل.. لا يكتفي بذلك، بل يفرغ في جسدها من مسافة صفر باغة بعشرين رصاصة لتنغرز في جسد إيمان ابنة الثالثة عشرة تماماً كما انغرزت شظايا القذيفة في جسد إيمان ابنة الأشهر الأربعة.. إنهم يقتلون الأطفال..
ثم ينطلق (صوت إسرائيل) ليقول إنهم قتلوا (مخربة) ومنعوا (عملية) وأحبطوا (تفجيراً), فقد كانت إيمان بزيها المدرسي تحمل حقيبة!.. سقطت لأنها تحمل حقيبة وهي في طريقها إلى المدرسة..
طلابنا يحملون الحقائب فماذا يحمل طلابكم؟؟ ألا يحملون حقائبهم ويسيرون؟!
لقد استلوا عدساتهم وبنادقهم.. شاهدوها.. دققوا فيها.. رأوا أنها طفلة وأطلقوا النار.. لأنها تحمل حقيبة..
قالوا بعد ذلك: خطأ! كما يقولون دائماً.. فالاحتلال لا يقتل الأطفال إلا (خطأ).. منذ بدء الانتفاضة حتى الآن أخطؤوا 815 مرة.. 815 طفلاً.. قد يخطئ بنو البشر مرة أو مرتين أو عشرة ولكن هل يخطئ 815 مرة ويبقى (يخطئ) فقط؟ لقد تعوّد هؤلاء الذين أطلقوا النار ومن أصدر لهم الأمر على أن مجتمعهم (الإسرائيلي). غفور رحيم.. إنهم (الأبناء الأعزاء يدافعون عن البيت).. حتى لو كان في رفح وجباليا وبيت حانون ونابلس وجنين.. يقتلون حتى الأطفال ليجلبوا الحياة لمن هم (الأفضل).. أولئك الذين وحدهم يستحقون الحياة.. إن موت طفلين من (شدروت) (ونحن ضد قتل الأطفال دوماً) يستدعي حرباً شعواء على مئات آلاف المدنيين في المخيمات.. وأما موت إيمان 2001 أو إيمان 2004 فلا يستدعي سوى الحديث عن (خطأ).
لا يا سادة.. إن هذا الدم هو دم طفلة لها أم ولها أب.. لها إخوة وأخوات.. إن ذبحتوها ستتألم وإن قتلتوها سنغضب وسيغضب معها شعب بأكمله أقسم ألا يخضع أو يركع حتى إن مزقتم أجساد أبنائه وبناته..
فهي تقاسيم حزينة أهداها لنا أطفال تتفتت أجسادهم، أهدوها إلى كل جرح نازف يذود عن هذه الأرض وهذا الوطن.
أراد شارون وصحبه أن يجنوا الثمن من الفلسطينيين في (غزة) جراء صواريخ القسام في شدروت.. نعم، لقد جنوا ثمناً باهظاً: 26 طفلاً! من بينهم إيمان.. إنهم يستهدفون (الإيمان) لشعب لا يريد أن يموت ولكنه يسأل بأعلى صوته: كيف نقاوم الدبابة والصاروخ.. كيف نواجه الرصاص؟ وهل تكفي أكاليل الورود رداً على قذائف الدبابات؟ وهل يسمع صوتنا الصارخ وحيداً أمام صمت أمة العرب؟
أم أننا لا نسمع سوى صدى صرخات الموت تقول: لماذا تركتم الفلسطيني وحيداً؟؟ إنهم يستهدفون العقيدة والصمود.. إنهم يستهدفون الرواية والذاكرة.. إنهم يستهدفون فلسطين.
تحول الموت إلى مفردة يومية في شرفات البيت وفي المدرسة.. في الملعب وفي المشفى.. يموت الشهداء ليعيش الأهل في فلسطين.. لا ليعيش العدو في (نفيه دكاليم).. يقولون في جباليا.
تذكرت صديقي الكاتب الرائع خيري منصور عندما سقطت إيمان الثانية لأننا كنا على موعد عندما سقطت إيمان الأولى.. وكتب آنذاك مقالاً رائعاً شارك بواسطته في جنازتها الحزينة. تذكرته ونحن نستذكر ما كتبه (مالبرته) الإيطالي حول ما قام به عسكريون ألمان في إيطاليا..
فقد قتلوا طفلة جميلة وتركوها على عتبة البيت. جاء الأب الثاكل ومددها في إناء وغمر جسدها المدمي بالنعناع ودعا الجنرالات إلى وليمة وهو يقول لهم: هذا هو عشاؤكم المتبل الأخير..
الفلسطينيون لم يغمروا (إيمانهم) بالنعناع ولا حتى بأوراق الآسي والصفصاف والدموع.. لقد شهروا مهدها الصغير في وجه عالم فظ، غارق في اللا مبالاة حتى أذنيه، إن كان له أذان يسمع..
سوف يسقط الجنرال لأنه الآن في خريفه تثقل خطاه من تخمة الأطفال ودم الأبرياء..
إن زمناً تطارد فيه الصواريخ والقناصة عصفوراً أو حمامة لهو خاتمة الأزمنة كلها.
يا ابنتنا التي لحقت أخواتها وأبقت زجاجة حليبها أمانة في أعناقنا نقول:
أنت موعودة بتلاوة نشيد الاستقلال ذات فجر فلسطيني..
تبت يدا من صمت..
وتبت يدا من خنع..
ويا جسر الأحزان أسميناك جسر العودة.
|