يموت قوم فلا يأسى لهم أحد
وواحد موته حزن لأقوام |
شاءت قدرة المولى أن يكون يوم السبت الموافق 2-9-1425هـ هو آخر أيام الشيخ الفاضل محمد بن عبدالله بن عبداللطيف آل شيخ مبارك من أيام الدنيا الفانية إلى دار الخلود، بعد عمر مديد حافل بالأعمال الجليلة والذكر الحسن، فلقد خيم الحزن على محافظة الأحساء لفقده وغيابه الطويل الأمد، وقد قضى الشطر الأول من حياته بين أحضان والديه ومع لداته وأترابه، وعند بلوغه السادسة من عمره ألحقه والده بإحدى مدارس الكتّاب لحفظ كلام الله وتعلّم الكتابة والقراءة، ثم واصل في طلب العلم حتى نال الشهادة العالية من كلية اللغة العربية عام 1382هـ، ولقد تربى في بيت علم وأدب منذ نعومة أظفاره، ومعلوم أن مدينة الأحساء تحتضن نخبة من العلماء والأدباء والشعراء معا، فهي بيئة صالحة للنهل من موارد العلوم العذبة حتى عصرنا الحاضر الذي اتسعت فيه آفاق المعرفة وسهل فيه رصد العلوم والمؤلفات، وسائر روافد الثقافة العامة والخاصة، وقد بدأ العمل مديرا للمكتبة العامة بالهفوف وإماماً وخطيباً في جامع الإمام فيصل بن تركي بالأحساء، واخيرا عمل مستشارا شرعيا ومأذونا للأنكحة، وكم قد جمع بين رأسين، وأصلح بين فئات عدة من الأسر كادت أن تتباعد، فهو إنسان لبق ومحبوب موفق في إقناع الأطراف المتنافرة والمتخاصمة ولمّ الشمل بينهم، وكان له نشاط إذاعي ملحوظ عنوانه (تهادوا تحابوا) فكم أنصتت الأذن لذلك الصوت الأثيري المميز الذي يصب شلالا في النفوس السليمة، ويلين هضاب القلوب القاسية فتنتفع بما يتفوه به من حكم وأمثال، ونصائح وإرشادات عامة معظمها يحث على استحضار عظمة الخالق والخشية من وعيده، والطمع فيما أعده لعباده الصالحين، عبارات سهلة وجزلة تحض على تقوية اواصر المحبة والتواصل بين الأسر وبر الوالدين، وإكرام صديقهما، وصلة الأرحام وحسن التعامل مع الغير، ورأب الصدع بين المتخالفين، ولقد تفضل ابنه د. محمود في إحدى زياراتنا لهم بالأحساء بإهدائي مجموعة الأشرطة التي كانت تذاع صباحا بصوت تلذه الأسماع - آنذاك - ويعلم الله أني حينما أسمع صوته وأنا على مقربة من منزلي أسرع لأجل تسجيله وذلك قبل الحصول على مجموعة الأشرطة كاملة، كما أن الشيخ يتصف بدماثة الخلق، وطيب المعشر، وبالكرم الحاتمي، وكان لنا معه مداعبات لطيفة، وذكريات جميلة في طوايا النفس لا يمحوها ماح على مر الليالي والأزمان، أذكر بعضا منها ونحن في طريقنا صوب الدمام لحضور حفل زواج أحد الأقارب هناك، وكان العزم بأن يكون غداؤنا لدى الشيخ حمد بن علي المبارك - رحمه الله - لكون منزله أقرب إلى مقصدنا الذي حضرنا من أجله، وحيث إن طريقنا محاذٍ للأحساء وفي الوقت فسحة، ولما تحمله قلوبنا من محبة ومودة صادقة لأسرة آل مبارك أحببنا أن نعرج على الهفوف للسلام على الأحباب المشايخ، وخاصة الشيخ محمد للاطمئنان على صحته - رحمه الله - الذي كان يعاني من أمراض عدة، فقد الح علينا بتناول طعام الغداء حينما أحس أن الوقت قد أدركنا بالأحساء، ورغم إلحاحه التمسنا بعض الأعذار الواهية التي اتصفت بالإيهام قائلين أنه سبق أن ارتبطنا مع ابن (دريهم) أحد الزملاء ونعني في قرارة نفوسنا الذهاب إلى بعض الفنادق أو المطاعم الراقية هناك، وكل ذلك تهرباً من تكرار المبالغة في تكريمه لنا عند زيارتنا له أثناء مرضه وعدم إعطائه الفرصة الكاملة للمشايخ الذين دائماً يغمروننا بأفضالهم وبهداياهم القيمة.., وبعد توديعنا لهم خشينا التأخر على الشيخ حمد بالدمام فاتصلنا عليه بالهاتف وأخرنا موعد الغداء ثم استجبنا لدعوة (ابن دريهم..!) الذي سبب الحرج لنا مع الشيخ حمد ومع الشيخ محمد - رحمهما الله جميعا - وحينما علم بذلك ألحقنا عبر اللاقط - الفاكس - ببعض الأبيات اللطيفة التي تحمل في ثناياها بعض العتب علينا، وقد استعنت بابن أخي الشيخ الأديب ناصر بن محمد الخريف بالرد عليه والاعتذار منه - تغمده الله بواسع رحمته - أذكر منها على سبيل المثال هذين البيتين:
يا بن الخريف قد ذكرت
إن الغداء لدى حمد
قد كان عذرك واهياً
وبن الدريهم قد شهد |
وجوابهما ما يلي:
جاء العتاب مبطن
في النظم منكم قد ورد
والتعب يأتي نظمه
مثل الأسنة بل أحد
يابن المبارك لا تلم
عذراً أتى أو قد يرد |
ورغم ما يكابده من متاعب جمة فإنه يلح على كل زائر ليدخل منزله، فهو منافس قوي لأسرة آل مبارك المشهورة بالكرم وبالأدب الجم الرفيع، كما أن الشيخ رغم مرضه يحاول أن لا يفوته الحضور إلى مجلسهم العام الذي يتصدره حاليا عميد اسرتهم الشيخ الأديب السفير أحمد بن علي المبارك ليأنس بهم قبل غيابه عن الوجود، وما يدور فيه من تجاذب أطراف الأحاديث الشيقة، والفكاهات والحكم والأمثال، والاطلاع على ما يجد في الساحة الأدبية من جيد الأشعار فهم يشغلون معظم أوقاتهم في بهجة وسرور، فوقتهم كله نشاط مستمر لا يتطرق إليهم ملل ولا فتور بل إن التثاؤب لا يجد إلى أفواههم سبيلا، فكل واحد منهم يحاول اقتناص وإحضار ما يلذ لخاطره ويؤنس الحضور من طرائف وحكم يقتات بها عقله ويمتع بها نفسه، ويسرح بها همه، ولسان حالهم مستحضر هذا البيت:
وخذ ما صفا من كل دهر فإنما
حضارته غنم لنا ونهابُ |
فما أجمل مجالس العلم ومحادثة ذوي العقول والآداب محلاة بجيد الأشعار وأحلاها، فهي تمرر ساعات العمر وأيامه في هناء ومسرات بعيداً عن المنغصات وكدر الحياة. وهذا شأن آل مبارك بالأحساء شباباً وكباراً.. فأنا أتمثل بهذا البيت مودعاً لأبي يوسف - تغمده الله بواسع رحمته - وألهم ذويه وأسرته الصبر والسلوان، ومتذكراً من سبقه من علمائهم الكرماء إلى مراقد الراحلين:
أمصغية أجداثكم فأزيدها
منادب فيها للدموع بواعث |
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
|