* الجزيرة - خاص:
مع قدوم شهر رمضان المبارك، يتطلع أبناء الأمة الإسلامية إلى الاستفادة من بركات هذا الشهر الفضيل، لمرضاة الله سبحانه وتعالى ونيل ثواب الصائمين الطائعين، فيجتهدون في الطاعات ويتسابقون إلى الخيرات، إلا أن كثيراً منهم قد يجهل الطريق، فيقع في بعض المحظورات التي تتنافى وجلال هذا الشهر أو تتعارض مع الحكمة من الصيام، بما قد ينتقص من أجرهم.
معالي الشيخ د. صالح بن عبدالله بن حميد رئيس مجلس الشورى وإمام وخطيب المسجد الحرام، يحدثنا عن فضائل هذا الشهر الكريم، وكيفية اغتنامه في الطاعات ومرضاة الله، بعيداً عن السلوكيات التي تخالف الحكمة من فريضة الصيام.. من خلال هذا الحوار.
* مع قدوم شهر رمضان المبارك، ما هي الكلمة التي يوجهها معاليكم لجموع المسلمين؟
- الحمد لله ما تعاقب الجديدان وتكررت المواسم ليظلنا هذا الشهر العظيم المبارك، فبلوغ رمضان نعمة كبرى، يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون للطاعات ابتغاء مرضاة الله، وواجب على كل مسلم أن يستشعر هذه النعمة وأن يغتنم هذه الفرصة، ويعلم أيضاً أنها إن فاتت كانت حسرة ما بعدها حسرة، فيالها من خسارة عظيمة أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بحديثه على منبره في مساءلة بينه وبين جبريل الأمين عليه السلام (من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين) ولنتساءل.. ماذا يرتجي من يحرم المغفرة في شهر المغفرة؟
ومن هجر القرآن في شهر القرآن؟. فلا شك أن هذه خسارة عظيمة نعوذ بالله وكل أمة محمد أن تكون من الخاسرين الجاحدين بهذه النعمة الكبرى.
* هل تحدثنا معاليكم كيف يجب على المسلم أن يستقبل هذا الشهر المبارك؟
- لنا في رسولنا - صلى الله عليه وسلم - القدوة والمثل في كيف نستقبل شهر رمضان، فقد كان بلوغ هذا الشهر أمنية يتمناها نبينا - صلى الله عليه وسلم - ويسألها ربه، حتى كان يقول: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان) فالعمل الجد لا يكون على تمامه ولا يقوم به صاحبه على كماله إلا حين يتهيأ له تمام التهيؤ، فيستثير في النفس همتها ويحدوه الشوق بمحبة صادقة ورغبة مخلصة في أدائه، وفي مقام الاستقبال والترحيب بشهر رمضان المعظم يقول عليه الصلاة والسلام مخاطباً أصحابه وأمته من بعدهم: (أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحباً به وأهلاً) وفي حديث عبادة: أتاكم شهر رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه برحمته ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم رحمة الله).
وفي استقبال شهر الصوم تجديد لطيف الذكريات وعهود الطهر والصفاء، والعفة والنقاء، وترفع عن مزالق الإثم والخطيئة، فهو شهر الطاعات بأنواعها، صيام وقيام، جود وقرآن، وصلوات وإحسان، تهجد وتراويح وأذكار، له في نفوس الطائعين بهجة ما بعدها بهجة وحسبنا في فضائله أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
* يقصر البعض الحكمة من الصوم في الإحساس بآلام الفقير الجائع الذي لا يجد ما يسد جوعه، وبالتالي يعينه ذلك على الإحسان إليه فما صحة ذلك؟ وماذا عن جوانب الطاعات الأخرى في فريضة الصوم؟
- الإحساس بمعاناة الفقير الجائع المحروم مجرد واحدة من أبواب الخير الكثيرة المرتبطة بهذا الركن من أركان الإسلام (الصوم)، ففي الصيام تتجلى عند الصائمين القوى الإيمانية والعزائم التعبدية، فيدعون ما يشتهون ويصبرون على ما لا يشتهون، وفي الصيام أروع صور ودلائل انقياد المؤمنين لأوامر الله وهجر الرغائب والمشتهيات، فيدعون رغائب حاضرة لموعد غيب لم يروه، وفي الصوم قيادة وسيطرة على الشهوات وليس انقياداً لها، ففي النفوس البشرية نوازع شهوة وهوى وفي الصدور دوافع غضب وانتقام وفي الحياة تقلب في السراء، والضراء، وفي دروب العمر خطوب ومشاق، ولا يدافع ذلك كله إلا بالصبر والمثابرة والاحتساب لله - جل وعلا -، ولا يحتمل العناء إلا بصدق المنهج وحسن العاقبة، وفي الصوم ترويض للغرائز وضبط لنوازع النفس فالألسنة صائمة عن الرفث والصخب والآذان معرضة عن السماع المحرم والأعين محفوظة عن النظر المحظور والقلوب لا تميل لإثم أو خطيئة إنه زاد للروح ومتاع للقلب تسمو به همم المؤمنين إلى ساحات المقربين، ويرتفع به العبد عن الإخلاد إلى الأرض ليكون أهلاً لجنة عرضها السماوات والأرض.
كما أن رمضان موعد معلوم لجماعة المسلمين كلهم ينتظمون فيه على نمط واحد من المعيشة الغني والفقير، والذكر والأنثى، والشريف والوضيع، كلهم صائم لربه، مستغفر لذنبه، ممسك عن المفطرات في وقت واحد بدءًا ومنتهى، متساوون في الجوع والحرمان، وفي ذلك تذكير بوحدة الهدف ووحدة الشعور ووحدة الضمير ووحدة المصير، وما أحوجنا إلى أن نستشعر هذه الوحدة التي يحققها رمضان للمسلمين، في هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها أمة الإسلام.
* كثير من المسلمين يقضون نهار رمضان في النوم وليله في السمر، وتجمعات اللهو، وغيرها من السلوكيات التي لا تتفق وروحانية هذا الشهر، فما تقولون لهؤلاء؟
- للأسف في الناس من لا يعرف من رمضان إلا الموائد وصنوف المطاعم والمشارب، يقضي نهاره نائماً من غير عمل حتى لا يقاسي الجوع والحرمان ويقطع ليله هائماً من غير عبادة، في بيع وشراء وربما في ارتكاب المحرمات، ولأمثال هؤلاء، هداهم الله، نقول إن دورات الأفلاك تنصرم وسنوات العُمر تنقضي، ومن يعلم إلا الله عالم الغيب، هل سنظل أحياء إلى رمضان القادم أم تنقضي الآجال والأعمار فنحاسب على ما ضيعناه من فضل هذا الشهر وما اقترفناه فيه من إثم، سواء من الإهداء لنهاره في النوم أو ليله اللهو, أو الانشغال بالطعام والشراب، لدرجة تجعل شهر الصوم وكأنه شهر للطعام في إسراف ممقوت وتبذير هو من فعل الشياطين والعياذ بالله، وللأسف فإن كثيراً ممن يسلكون هذه المسالك المرفوضة يدعون أنها من مظاهر الفرحة بهذا الشهر المبارك، في حين أن الفرحة الحقيقية تتحقق باغتنام هذا الشهر في الطاعات من صوم وصلاة وتلاوة وإحسان وزكاة وصلة الأرحام وكل مظاهر التعاون على البر والتقوى.
* يلاحظ حماس كثير من المسلمين لأداء الفرائض والنوافل في أول رمضان.. تم يفتر هذا الحماس قرب انتهاء الشهر ولا سيما في العشر الأواخر، وربما يتوقف تماماً بعد انتهاء الشهر فماذا يعني هذا الفتور؟ وما هي نصيحتكم للمسلمين في هذا الأمر؟
- مثل هذا الفتور يكشف ضعفاً في الهمة وجهلاً بفضائل هذا الشهر المبارك، وانشغالاً بأمور دنيوية مثل البيع والشراء أو الاستعداد للعيد بما يلزم من طعام أو شراب أو ملبس فما أن يبدأ الشهر الكريم تتقوض خيامه ويتناقص هلاله، حتى ترى أمثال هؤلاء الغافلين ولا سيما بعد ليلة سبع وعشرين، وقد دب في سلوكهم التقصير والفتور، فتخسر صفوف المصلين، ويقل إحسان المحسنين، وكأن هؤلاء القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
وننصح هؤلاء بمجاهدة النفس الأمارة بالسوء بالمداومة على الطاعات طوال رمضان، وكذلك بعد انقضاء الشهر الكريم، فمداومة المسلم على الطاعة من غير قصر على وقت معين أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهين على القبول وحسن الاستقامة، يقول تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، فجدوا رحمنا الله وإياكم في خواتيم شهر رمضان ففيها عتق من النار، وإنما الأعمال بالخواتيم ومن أحسن وأصلح فيما بقي غفر له ما سلف ومن استمر في تقصير أُخذ بما سلف وبما بقي.
فما أدهى أن يوفق أناس لعمل الطاعات والتزود في فرص الخيرات حتى إذا ما انتهى الموسم نقضوا ما أبرموا وعلى أعقابهم نكصوا واستدبروا الطاعات بالمعاصي، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتلك والعياذ بالله النكسة المردية والخسارة الفادحة، فرمضان يجب أن يكون زاداً لما بعده من الشهور، وعُدة لمستقبل الأيام واستيعاباً لدروس الصلاح والطهر والاستقامة والتقى.
* وكيف يكون الاحتفال الأمثل بعيد الفطر المبارك بعيداً عن أي مخالفات شرعية أو منافاة لروحانية وفضائل الشهر الكريم؟
- يجب أن نعلم أن العيد موسم بهجة بعد أداء الفريضة، ابتهاج بالتوفيق لأداء شهر الصوم.. وليس احتفالاً بنهاية الشهر فلو علمنا ما في رمضان من خير لوددنا أن تكون السنة كلها رمضان.. والعيد في الإسلام غبطة في الدين والطاعة وبهجة في الدنيا والآخرة، ومظهر للقوة والإخاء، وهو فرحة بانتصار الإرادة الخيرة على الأهواء والشهوات، وبهجة بالخلاص من إغواءات شياطين الإنس والجن، والرضا بطاعة المولى والأمل في الفوز برضوان الله وثوابه.
ومن غير المقبول أن تطغى فرحة العيد على إنسان ما فتستبد بمشاعره ووجدانه لدرجة تنسيه واجب الشكر والاعتراف بالنعم أو تدفعه إلى الزهو الجديد أو الإعجاب بالنفس حتى يبلغ درجة المخيلة والتباهي والكبر والتعالي.
وقد قيل: من أراد معرفة أخلاق أمة فليراقبها في أعيادها.. إذ تنطلق فيه السجايا على فطرتها وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد الصالح هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى، فيبدو متماسكاً متعاوناً متراحماً، تخفق فيه القلوب بالحب والود والبر والصفاء.
وكم هو جميل كذلك أن يقترن الاستعداد للعيد وفرحته وبهجته مع استعداد لتفريج كربة المكروب وملاطفة يتيم محروم ومواساة ثكلى مكلومة وتفتيش عن أصحاب الحوائج وإسعافهم ولو بكلمة طيبة وابتسامة حانية ولفتة طاهرة من قلب مؤمن.
وليكن معلوماً: أن الابتهاج بالعيد نعمة لا يستحقها إلا الشاكرون ويبتهج بها صدق الابتهاج أهل الطاعات من الصائمين والقائمين والركع السجود، الذين فرحوا بقدوم رمضان واستعدوا له بتهيئة النفس للطاعات والعمل، أما من لم يفرحوا برمضان فلا عيد لهم، ومن لم يصم، عاصياً لله، ولم يقم بما أوجب عليه فلا عيد له ولا بهجة.. فليكن الابتهاج بالعيد بالبقاء على العهد وإتباع الحسنة الحسنة فذلك من علامات قبول الطاعات.
|