Friday 22nd October,200411712العددالجمعة 8 ,رمضان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

شهود لم يشهدوا شيئاً شهود لم يشهدوا شيئاً
يختطفون العدل
د. فوزية عبدالله أبو خالد

قد يكون موضوع المقال لهذا الأسبوع من المواضيع التي نادراً ما يجري التطرق إليها وذلك ليس لعدم أهميته وليس لأنه لا يمثل قضية اجتماعية من تلك القضايا التي تمس حياة شرائح حيوية من المجتمع وليس لأنه من المواضيع التي تقع في حكم المسكوت عنه نظراً لتحفظ اجتماعي أو سياسي ولكن ببساطة لأنه من تلك المواضيع التي قد يستسلم الناس لها بحكم التعود على وجودها كظاهرة أو كواقع مفروغ منه دون التساؤل عن ما قد تتسبب فيه من أذى أو أضرار أو التفكير في مراجعتها وتصحيح أي مسارات غير سوية قد تسير فيها وإن ترتب على انحرافها عن المسار السوي ما قد يشكّل مسألة حياة أو موت لمن يقع في طريقها. كما أنه قد يكون جزء من عدم التطرق لهذا الموضوع وما يشابهه من المواضيع التي لا ترد كثيراً في أجندة النقد الاجتماعي هو ليس فقط عدم وصول أصوات أصحاب مثل هذه المسائل من المكتوين بخبراتها المريرة أو آلامها إلى منابر التعبير ولكن أيضا قد يرجع ذلك إلى أن الكثير من المعنيين بكتابة النقد الاجتماعي يكتبون من مكاتبهم أو منازلهم على أسطح لوحة مفاتيح الكمبيوتر الباردة كما أفعل في هذه اللحظة بما لا يجعلهم في موقع الانشغال المباشر واليومي بكثير من القضايا الاجتماعية الساخنة التي تحتاج إلى وقفات نقدية صارمة أو بما لا يمكنهم في أحسن الأحوال من أن يكونوا على مسافة قريبة بما يكفي للانغماس والتماس مع إيقاع الواقع في الشارع والبيوت والمؤسسات.
وإن كنت من حيث أدري ربما حاولت التقديم لموضوع اليوم بهذه المقدمة التي آمل أن تكون محفزة لإثارة فضول قارئ أو آخر ممن يعنيهم أو من في يدهم التصدي لإصلاح ما يشكل قضايا اجتماعية تحتاج لاعادة النظر فإنني أرجو الله ألا أكون من حيث لا أريد على وشك أن أخسر ذلك النمط من القراء الذي تثير سأمه مثل هذه المقدمات. وتحسباً فلربما يجدر بي أن أدخل في صلب الموضوع. والموضوع هو موضوع (شهود الزور) و(الشهادات الجاهزة) في محاكمنا الشرعية وبعض الدوائر الحكومية.
ليس سراً وإنما يجري الأمر جهاراً نهاراً في رابعة الضحى أنه يكاد يكون لدينا (شهود متخصصون) في بيع شهادة الزور لمن يدفع في أحداث لم يحضروها وضد أو مع أشخاص لم يقابلوهم في حياتهم قط وفي حق قضايا وهنا منزلق الفرس وليس مربطه قد تكون حساسة وخطيرة لا يعرفون عنها شيئاً ولا يفقهون من أمرها إلا ما يطلب منهم قوله وإن مسّت أو أودت أقوالهم في (شهادة الزور) بمستقبل الطرف الذي يؤجرون للشهادة ضده. وهذا (التخصص التزويري) لا يتطلب أي مؤهلات ماعدا أن يكون صاحبه يحمل بطاقة أحوال مدنية سارية المفعول.
ولأي ممن تسوقه الظروف أو الفضول أو البحث أو غرض قضائي إلى الساحات الخارجية لمحاكمنا أو لبعض دوائرنا الحكومية والمختص منها على وجه التحديد بخدمات الأحوال المدنية أن يلحظ أن هناك عدداً من (المتسببين) بلهجتنا السعودية العامية أي المتعيشين من هذا العمل وهو تقديم خدمة أداء شهادة لمن يسعى إليها دون أن يلفت النظر خطورة مثل هذه السلعة (الشهادة غير المحققة) التي قد تجر المتاجرة بها التفريط في حياة الأبرياء, فليس من جهة على حد علمي كجهات مكافحة تهريب المخدرات أو مكافحة الغش التجاري لتقوم بفحص مدى صلاحية تلك البضاعة من (الشهادات المباعة). فأولئك (الباعة) الحاضرون حسب الطلب يقدمون أنفسهم بسذاجة أو بموت الضمير والوازع الديني والحس الإنساني كشهود في قضايا لا يعلمون أن كانت شهادتهم فيها صادقة أو افتراء وبهتانا, أي بصريح العبارة (شهادة زور). وهؤلاء (الشهود المستأجرون) عادة ما يكونون جاهزين ومستعدين لترديد الشهادة التي تلقن لهم من قبل المشتري الذي غالباً ما يكون عن سابق عمد وإصرار يعرف خطورة السلعة التي يقدم على شرائها وإلا لو كان وضعه سليماً فلماذا لا يستعين بشهود حقيقيين ممن شهدوا الموقف وليس ممن هم مستعدون لادعاء ذلك مقابل الدفع مع أنه في الغالب ثمن بخس خاصة مقابل جريرته النكراء في بيع الذمم. والملاحظة الجارحة أنه كما تنتشر على قارعة الطريق إلى المحكمة في معظم مدننا (ماصات) العرضحالجية ممن يكتبون العرائض لمن يحتاجها وكما تنتشر (بسطات) بعض البضائع الرخيصة من العطور والشماسي والنظارات الشمسية التقليد والملفات الخضراء العلاقي أو المثلجات وما شبهها ينتشر نفر من مختلف الخلفيات العمرية يعرضون خدماتهم للوقوف في قاعة المحاكم والمثول أمام القضاة دون أن يرف لهم رمش ليقدموا أي شهادة مطلوبة والتي قد تتراوح من تقديم شهادة حياة لميت أو حي مطلوب إثبات حياته إلى شهادة غاية في الحساسية والخطورة في قضايا أخلاقية وقضايا أسرية وقضايا ملكية أو ما هو أفدح. وهذا ينطبق على (شهادات زور) يدلي بها شهود غير عدول ولا تنطبق عليهم شروط الشاهد العدل والشهادة غير المجروحة مما لا يتقدم بها أو ينتدب لها شهود زور من الرجال وحسب بل يشارك فيها شاهدات زور من النساء أيضاً. إذ يمثل (بتسكين الميم) هؤلاء الشهود المنتحلون أمام القضاء ويمثلون (بفتح الميم) دور الشاهد الأمين وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.
وإن كان ربما ضيق ذات اليد والجهل وغياب أبجديات المعرفة الشرعية عند بعض هؤلاء المتسببين هو ما يسمح لهم ببيع شهادتهم على ما لم يشهدوه دون تقدير للخطورة الاجتماعية التي يجنونها على الأفراد وعلى المجتمع بتقديم مثل هذه الخدمة المشبوهة وإن كان لن يصعب على من أراد الاستعانة (بشهود زور) تدبر أمره عن طريق الاستعانة بهم أو بسواهم فإنه يجب ويجب ويجب أن يكون لدى المرجعية القضائية من الأنظمة ومن آليات التحري ما يحارب مثل هذه الاختراقات.
إن مسألة الشهادة وشرط الشاهد العدل من المسائل الشرعية التي لا لبس في أحكامها وشروطها والتي يجب عدم التهاون أو التفريط في أيٍ منها عند قبول الشاهد أو الاستماع إلى شهادة.
ومن أمثلة (السيناريو التحضيري) لما يجري عند بوابات المحاكم ما يلي:
* تشهدين أن فلانة هي بنت فلان وزوجة فلان وهي الواقفة أمامك؟
* نعم أشهد.
* هل تزكي الشاهد الماثل أمامك.
* نعم أزكي.
* هل المذكورة قامت بالخروج من بيت الزوجية بعد طلاقها تاركة أطفالها خلفها وأن قولها إنه انتزعهم منها عند باب المدرسة قول غير صحيح؟
* نعم أشهد.
* هل شهدت على التنازل عن الإرث؟
* نعم أشهد.
* هل تشهد أن فلاناً على قيد الحياة؟
* نعم أشهد.
وهكذا بطرفة عين تسلب حقوق محققة وينهب أصحاب حق ويضيع أطفال فيذهبون ليتربوا في أحضان الخادمات بعد أن ينتزعوا من أحضان أمهاتهم وتتشتت أسر وتتكسر أجنحة ويجرم أبرياء، بينما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما ألح في عدم التهاون في مسألة من مسائل حقوق الناس مثل إلحاحه في التحذير من شهادة الزور.
فهل لنا في فعل قضائي واجتماعي يضع حداً لحالات اختطاف العدل التي يشهدها المجتمع يومياً على أعتاب بوابات المحاكم؟
هذا ونسأل الله أن يلهمنا ويلهم كل مسلم خشيته في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضا والغضب. ولله الأمر من قبل ومن بعد.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved