باعتقادي أن أكبر صدمة حضارية تعرضنا لها على المستوى المحلي، هي الانتقال من مجتمع رعوي بسيط أو شبه زراعي إلى حالة اشتباك تامة مع العصر الحديث على جميع الأصعدة، وبمدة قصيرة نسبياً وقافزة على التواتر التاريخي الذي يمنح عادة مساحة للمجتمع كي يستوعب هذه التغيرات ويمتصها، ولكن المتأمل لكم وافر من الإشكاليات التي تواجهنا في العصر الحاضر، يجدها قد نتجت عن طبيعة المواجهة السريعة مع العصر، سواء فيما يتعلق بالعنف الديني الذي هو أحد أشكال الخوف الموتور على الهوية من كل ما هو غريب ومختلف، أو طبيعة الثقافة الإدارية التي نراها في المؤسسات الحكومية التي لم ترسخ قيمة واضحة للعمل وتستبدلها بالتسويف والتأجبل - وانتظار المواسم - الناتج عن الطبيعة البطيئة للمجتمع الزراعي الذي لم يدجن بشروط الآلة أو المصنع، انتهاء بالمستوى الصحي الذي يجعلنا نلمح حيثما اتجهنا أبدانا ثقيلة مكتنزة قد طبقت شحماً ولحماً في ظل غياب وعي حقيقي وثقافة صحية والركود إلى الاسترخاء الذي يصاحب مجتمعات الوفرة الاستهلاكية.
لكننا من ناحية أخرى بدأنا نلمح استجابات حضارية ومدروسة وذات وعي عميق بطبيعة المكان والمرحلة وتغير العلائق بين مجتمع القرية والمدينة، فقد وصلني منذ أيام كتاب دليل الإرشاد الاسري من د.عبد الله السدحان الوكيل في وزارة الشؤون الاجتماعية، وفي هذا الكتاب تصور كامل عن الإرشاد الأسري الذي تقوم به الوزارة بمساعدة من (مشروع ابن باز الخيري) حيث يوضح هذا الكتاب القواعد الشرعية التي قام عليها هذا الإرشاد إضافة إلى الشروط التي يخضع لها من يتصدى لهذا العمل من المختصين، وأبرز الوسائل التي يتم عبرها عبر آراء لصفوة من الأكاديميين، المختصين الذين استعان بهم البرنامج في هذا المجال، والحقيقة أن هذا المشروع يحمل في طياته وعياً عميقاً بطبيعة المتغيرات التي حلت على المجتمع والأسرة، ووعي أن من الصعب اللجوء إلى الأهل فقط في حالة المشاكل الأسرية نظراً لارتفاع العاطفة لديهم وعدم الحيادية، بحيث يصبحون مصدراً للمشكلة لا حلاً لها، كما أن جو السرية والخصوصية التي يوفرها الإرشاد الأسري من شأنها أن تطمئن صاحب المشكلة أنه بين يدي اختصاصيين أمناء يراعون الله - إن شاء الله - في أمانتهم، وأعود إلى رأس المقال لقد غادرنا مجتمع القرية، وتقطعت العلاقات القديمة وذوت، وبات من الضروري أن نستبدلها بعلاقات جديدة تتواءم مع طبيعة المدن الضخمة الشاسعة، ولعل هذا المشروع يبرز شكلاً حضارياً ومتميزاً للتعاون والتعاضد والعمل الخيري في المدينة الجديدة.
|