.. الرفاهية والأمن الاجتماعي لا يعتمدان فقط على كثرة المال والقدرة العسكرية الفائقة، بل إن هناك من الروافد في مفهومنا الإسلامي ما يعزز كلا المعنيين سواءً في تحقيق رفاهية الإنسان وأُنسه أو في شعوره بالأمن والطمأنينة النفسية، وهذه المعاني لا يُحسن استقراءها من لا يمتلك فهم حقيقة السنن الربانية التي يُدار من خلالها الكون.
.. إن هناك من المعاني والحقائق الاجتماعية ما يستجلب بعمل خير للوطن أو بمسحة رأس يتيم وابتسامة لمحتاج أو بإزالة أذى عن الطريق أو بغيرها من المعاني الحضارية النبيلة التي تحضّر بسببها الأرض وينهمر بها المطر وتورق الشجر ويسعد بها البشر، والعكس صحيح ان سلوكياتنا السلبية قد تتسبب بفساد الماء والهواء والثمر وقلة الخير والقطر وكثرة الشر.
.. ولعل من أبرز ما يحقق ويعزز الأمن الاجتماعي جهود الدولة في رعاية الفئات المحتاجة في المجتمع، والملمح الاجتماعي الذي نحب تأكيده هنا هو أن روافد تعزيز أمن المجتمع ورفاهيته يتمثل في اهتمام الدولة بتبني قضايا الفقراء والمحتاجين والأيتام، وهذه الرعاية المهمة هي من جهة تحفظ هذه الفئات من الانحراف الذي يشكّل تهديداً لمستقبل المجتمع نظراً لعدم وجود من يرعاهم ويتابع شؤونهم ومن جهة ان سنن التقدير الإلهية تعمل عملها في المجتمع بحيث (إنه كلما بذلت الدولة أو حتى الأفراد نفقاتهم وخدماتهم لهذه الفئات المحتاجة انعكس ذلك على الواقع الاجتماعي من حيث الرفاهية والمباركة) والبركة الإلهية لا يمكن حدها ولا حصرها ذلك أنها لا تخضع للموازين البشرية.
.. ولعل تاريخ الدولة- حفظها الله- مشهود في أعمال بر وخير عديدة في الداخل والخارج، لكن الذي يلفت الانتباه تلك العناية المميزة بشريحة الأيتام التي تتعهد الجهات والجمعيات المعنية برعايتهم، ومن أبرز هذه الجهات التي تعد رافداً متميزاً من روافد الخير والأمن في مجتمعنا السعودي (المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام).
.. هذه المؤسسة فكرة نبعت من خلال المعنيين والمهتمين بشؤون رعاية الأيتام وعلى رأسهم معالي وزير الشؤون الاجتماعية أ.د علي النملة وسعادة أمينها العام الأستاذ منصور بن صالح العُمري حيث تمثل هذه المؤسسة المباركة أنموذجاً في رعاية الأيتام من خلال عددٍ من الخدمات وطرق الرعاية غير التقليدية للأيتام ذكوراً وإناثاً، وتتمثل أبرز أهداف المؤسسة التي انبثقت بموجب قرار مجلس الوزراء بتاريخ 14-1-1424هـ في السعي لتطوير منهجية الرعاية الإيوائية المقدمة للأيتام ومن في حكمهم، وتمتد خدماتها إلى مختلف مناطق المملكة.
.. وما من شكٍ بأن فقدان الوالد - الوالدين يشكل فراغاً عاطفياً ونفسياً واجتماعياً واقتصادياً كبيراً على الأولاد، ومن هنا تهدف هذه المؤسسة الخيرية إلى محاولة الاقتراب من مفهوم الأسرة الطبيعي لمن تشملهم الرعاية وذلك من خلال أفكار وممارسات جديرة بالاهتمام والتقدير.
.. وإذا كانت الدولة- رعاها الله- قد خصصت جوانب رعاية مختلفة ومتنوعة للأيتام بدءاً من المولود وانتهاءً بالراشد فإن مرحلة الرشد تعد من أهم وأخطر المراحل التي تحتاج إلى عناية فائقة، ولذلك فإن هذه المؤسسة الخيرية بالإضافة إلى رعايتها النموذجية للأيتام عموماً يتمحور عملها حول الرعاية والمتابعة لفئة الراشدين ذكوراً وإناثاً فترعى شؤونهم المختلفة وتتابع قضاياهم سواء العلمية أو العملية الوظيفية ومشاريع زواجهم وغيرها مما يحتاجه الأيتام في العادة، ولعل من أبرز المناشط التي تقوم برعايتها المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام الآتي:
أولاً: أنموذج دار الضيافة الجديد:
.. وتتمثل هذه الفكرة بإيجاد بيئة رعاية أقرب ما تكون إلى الجو الأسري، وهي عبارة عن مجمع سكني يتكون من 16 فيلا مستقلة كل فيلا يسكنها اثنان من الذكور دون سن الثامنة وأربع بنات في أعمار مختلفة يسكنون مع امرأة تقوم بوظيفة الأمومة لهم خلال خمسة أيام متواصلة ليل نهار وتحل محلها خالة بديلة أثناء غيابها.. وتقدم في هذه الدار مختلف أوجه الدعم والرعاية وتعميق الثقة بالنفس بما يحقق الخصوصية ويبني في نفوس الأيتام الاعتماد الذاتي والاستقرار النفسي الذي سوف ينعكس بإذن الله مستقبلاً على رعاية البيت كاملاً، وهذا النموذج من الرعاية الجديدة يختلف كلياً عن الرعاية الاجتماعية التقليدية، ولعل هذه التجربة في مجال رعاية الأيتام مع الفأل بنجاحها مستقبلاً أن تعمم على مستوى المملكة.
ثانياً: برنامج الزواج الجماعي:
.. تقوم المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام بتأهيل الفتيان والفتيات المقبلين على الزواج حيث تؤمن لهم ابتداءً السكن المناسب وتجهزه وتقوم من خلال دورات مكثّفة بتأهيل المقبلين على الزواج من الأيتام - ذكوراً وإناثاً - على إدارة شؤون البيت وتحمل المسؤولية وقضايا إدارة المطبخ وغيرها مما يحتاجه الزوجان لإدارة بيتهم، وخلال أربعة أشهر ثم تزويج مائة وستة عشر شاباً وفتاة شرّف هذه الاحتفالات الجماعية عددٌ من الأمراء والأميرات والمسؤولين مما أضفى على هذه الزيجات نوعاً من التميز بل وإفادة المتزوجين بالتبرعات العينية والنقدية.. وكل هذه المعاني التكافلية تنمي في حس الأيتام عمق الشعور الوطني والانتماء لهذا الوطن المعطاء.. ولا تقف رعاية الأزواج عند إقامة الحفل، بل تقوم المؤسسة بالمساهمة مع الزوج بدفع جزءٍ من الإيجار سنوياً لمن يثبت عجزه عن السداد وتواصل إشرافها ورعايتها لكل ما يحتاجه الزوجان.
ثالثاً: برنامج الرعاية الأسرية:
.. ويهدف هذا البرنامج إلى توعية اليتيمات المتزوجات وتدريبهن وتهيئتهن نفسياً وإجماعياً مع التركيز على النواحي الأسرية المتمثلة في:
أ- إكساب الزوجة اليتيمة السلوكيات المتعلقة بمعاملة الزواج وكسب مودته.
ب- إعداد الزوجة لمواجهة حياتها الأسرية وإدارتها.
ت- توعية الزوجة ثقافياً وتزويدها بالكتب والمجلات المتنوعة النافعة.
ث- مشاركة الزوجة أفراحها ومناسباتها من خلال وحدة الرعاية الأسرية التي تديرها عدد من النساء المتخصصات.
بالإضافة إلى ذلك فإن المؤسسة تواصل خدماتها للفتيات اللاتي يتزوجن فعند الولادة يتم تأمين الرعاية اللازمة للمرأة في مرحلة النفاس إذا لم تتوفر الرعاية المنزلية المطلوبة بحكم ظروفها الخاصة بل إن بعض الحالات التي لديها أطفال صغار وتمر بمرحلة الحمل في نفس الوقت يتم توفير خادمة منزلية مساندة للأم على إدارة منزلها والعناية بأطفالها في هذه المرحلة الحرجة.
رابعاً: برنامج رعاية الموهوبين:
.. ويهدف هذا البرنامج إلى توجيه رعاية خاصة لأصحاب المواهب من الأيتام وذلك من خلال استثمار جزءٍ من موارد المؤسسة في مشروعات صغيرة تتفق مع مواهب الأيتام ذكوراً وإناثاً وذلك يعزز من تنمية مهارات الأيتام وينمي فيهم الثقة ويسهل عليهم الرعاية اللاحقة حيث تهيئ رعايتهم الخاصة وإدارتهم لمشاريعهم الصغيرة تأمين مستقبلهم بما يحقق أهداف المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام.
خامساً: برنامج الرعاية اللاحقة:
.. يحتاج اليتيم واليتيمة خصوصاً حينما يكبر إلى شيء من متابعة احتياجاته ومساعدته على تجاوز صعوبات الحياة بل وحمايته من أي خطرٍ يتهدد أمثاله. ويقوم هذا البرنامج بمتابعة موضوعات وقضايا الأيتام لدى الجهات المختصة، إضافة إلى مساعدة الأيتام في الحصول على الوظيفة بعد تأهيلهم لذلك نفسياً واجتماعياً ومهنياً، إضافة إلى تهيئة الشباب في سن الزواج إلى حياة الأسرية وخدمة المجتمع ومساعدتهم في عملية الإسكان وغيرها من الاحتياجات الاجتماعية، وهذا البرنامج يشمل كلاً من الذكور والإناث.
سادساً: برنامج صلة:
.. هو برنامج جديد لبعض الأيتام الذين يتبين من خلال متابعة أوضاعهم أن أمهاتهم غير سعوديات ومحل إقامتهن في بلدانهن الأصلية فانقطعت صلتهن بأولادهن، ولذلك فهذا البرنامج (صلة) يمكّن الأولاد من التواصل مع والديهم من خلال زيارات تشرف عليها المؤسسة.
سابعاً: مشروع المخزن:
.. وهو مشروع تكافلي يفتح الفرصة أمام المجتمع بأسره أفراداً ومؤسسات لدعم الأسرة اليتيمة بمختلف التجهيزات لمنزل المستقبل لهم.. وهنا تتيح المؤسسات الخيرية مشكورة من خلال هذا المشروع الوطني للراغبين في دعم المؤسسة لمساعدة الأيتام سواء بالتبرعات العينية أو المادية. وكم هي جميلة هذه الفكرة إذ يمكن لكل مؤسسة سواء في الأجهزة الكهربائية أو غيرها أن تمد بيوت الأيتام بما يحتاجونه وكذلك أصحاب المفروشات والأثاث المنزلي وغيرهم من أبناء هذا الشعب السخي المعطاء ومؤسساته الخاصة.
ويرى القائمون على المؤسسة الخيرية أن العطاءات العينية لها أثر إيجابي كبير حيث إنها من جهة تعين المؤسسة في الرعاية إذ من الممكن أن يكون في الإعانة المادية صرف لغير الوجه الأهم في شؤون الأسرة. عموماً هذا المستودع الخيري لرعاية الأيتام هو وسيلة للتواصل والعطاء لمن يستحقون في مجتمعنا السعودي، وهذا من جانبه سينعكس على رفاهية المجتمع وأمنه وأمانه.
.. أخيراً لا يجد المتابع لمثل هذه الجهود إلا أن يشكر القائمين على المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام وأن يدعو لهم بالتوفيق والسداد إذ إن هذه الجهود هي أحد صمامات الأمان في مجتمعنا السعودي التي لا يشعر بها أحياناً أبناء المجتمع ذلك ان هناك من الجهود الخيرية ما لا يحب العاملون فيها اظهارها، ولكن الناس شهود ما يحدث على الواقع وهذا المقال هو إشادة محب لهذه الجهود التي يجب أن تذكر فتشكر..
.. فشكر الله الدولة رعايتها وللقائمين على هذه الأعمال جهودهم حفظاً للأمن ورفاهية للفئات المحتاجة في المجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) وأشار بالسبابتين.
( * ) جامعة القصيم - قسم الاجتماع
|