لا ألبث إلا ويشدني الحرف إلى منبر هذه العزيزة التي تحرك مكامني دوماً بعبقها الإعلامي المميز كمنبر صنع لنفسه مساحة ثرية من الرأي الحر والفكر الراقي، وأجدني دوماً مجبراً على التفاعل مع بعض الجوانب التي آثرت إلا أن أدلو برأيي حول بعض منها والتي تناولت وتتناول قضية السلبية المتعلقة بالبيئة العمرانية لمدينة الرياض ونبض الشارع المعني تجاه ما يتعلق بنقد أو بوصف لبعض العناصر المكانية العمرانية التي يعنى بها تخطيط المدينة أو تلك الخدمات والأنشطة الحياتية التي تقدمها الرياض لساكنيها والتي تعنى بها الإدارة العمرانية، بفحوى رأيت أنها تقتصر في كثير من الأحيان على نظرة واقعية بحتة لم تعتمد على معرفة دقيقة بل اعتمدت في تناولها على مشاهدات سريعة لم تبن على أسس معلوماتية صحيحة؛ مما جعلها تفتقد التحليل المنطقي والرؤية الشاملة وفق ما تتطلبه المنظومة العملية الحديثة لمشاركة المجتمع في تطوير بيئته العمرانية.
إننا نؤمن بأن من حقنا كمجتمع المدينة - أفراد وجماعات ومؤسسات - أن نناقش ونطرح بعض الجوانب السلبية لمدينة الرياض، ولكن في نفس الوقت لا بد أن نؤمن أيضاً أن من حق المدينة أن ننصفها وذلك بممارسة المنهجية العلمية والعملية الملائمة للطرح والنقاش؛ حتى يمكن أن نطوّر من نمط العلاقة بين المواطن والمدينة وفق ما يتطلبه المجتمع المدني الحديث من مقومات وأسس، خاصة ونحن نخوض مراحل جديدة تطبق فيها أساليب الإدارة المحلية في تنمية المدن وتطويرها من خلال توسيع مشاركة المواطن في ممارسة دوره الرئيس تجاه الارتقاء بعلاقته مع مدينته وفق مفاهيم جديدة ومتطورة تعبر عن الحوار المتحضر والمرونة والثقة المتبادلة والمعرفة والإدراك والانتماء إلى المكان وفلسفة جديدة للتفاعل مع أنظمة المدينة من خلال إدارتها المحلية المتعددة.
وأشير هنا إلى بيت القصيد في هذا الموضوع وهو أهمية الاستغلال الأمثل للمساحات الحرة التي يسهم بها الإعلام المقروء والمرئي والمسموع وذلك بأهمية الحرص على اختيار مستوى الجوانب التي نؤمن بطرحها للنقاش وأن نراعي مستوى الأهمية للموضوع المعني كأساس لاختياره على طاولة الطرح والمداولة فمثلاً ليس من المنطق أن نتناول وبمساحات كبيرة مواضيع متعددة لمناقشة عمود إضاءة لا يعمل داخل المدينة أو التعليق على رصيف ألوانه غير متناسقة، أو مناقشة موقع شجرة تغطي لوحة إرشادية، أو مطب صناعي داخل حي سكني، أو خطأ إملائي في لوحة محل تجاري، أو تسرب في صنبور مياه بأحد الشوارع، أو شارع غير نظيف، ونحن في الوقت نفسه بإمكاننا حسم مثل هذه المناقشات ومعالجتها مباشرة وبخطوة سريعة ومباشرة مع الإدارة المحلية في المجاورة السكنية أو الحي السكني أو المجموعة السكنية المعنية، وذلك باتصال هاتفي أو زيارة سريعة أو عبر إرسالها في البريد لأنها لا تخص إلا نطاق دائرة مكانية محددة على خريطة المدينة تعنى بالمجتمع المحلي المحيط فقط حيث يمكن معالجة الموضوع بسرعة كبيرة من خلال هذا الإجراء الذي يفترض أن ينهى مع النهاية الطرفية لهيكل إدارة المدينة حسب تدرج مستوى الخدمة ومستوى الصلاحية لنضمن تفعيل التدرج الهرمي لهيكل إدارة الخدمة بشكل عادي.
ما أقصده أن المطلوب مناقشته عبر وسائل الإعلام يجب أن يمنح الأولوية للمواضيع ذات المستوى الأكبر من الأهمية، خاصة فيما يتعلق بالرؤية التخطيطية لمستقبل المدينة أو سياسة ضبط التنمية أو نمط استعمالات الأراضي في المدينة أو سياسة الإسكان أو أداء شبكات البنية التحتية أو مناقشة أساليب إدارة المدينة أو بمناقشة تحفيز برامج الإنجاز العمراني المتكامل Investment - Development Package مثلاً كمشاريع ريادية تسهم في دعم استثمارات المدينة؛ لأن مثل هذه المواضيع بحاجة إلى التفاعل المستمر؛ كونها تحدّد مستقبل الأجيال القادمة، وتعنى بكامل مجتمع المدينة - أفراد وجماعات ومؤسسات - ولم تنحصر على نطاق مكاني ضيق فقط وهي الجوانب التي تحتاج إلى المشاركة بالرأي والنقاش من جميع فئات المجتمع وشرائحه للخروج بنتائج مرضية تكفل قيادة المدينة إلى مستوى عال من التطوير بدلاً من إهدار الوقت في نقاش مواضيع جزئية جداً يمكن معالجتها بإجراءات سهلة ومباشرة، وأن يستغل مجتمع المدينة هذه الفرصة التي تمنحنا إياها وسائل الإعلام مشكورة بشكل فاعل ومفيد.
إن المشاركة في التطوير تتطلب وعياً من المشاركين ومسؤولية وقدرات فكرية ملائمة ورغبة أكيدة في النقد والتحليل وطرح الحلول والاستعداد للانخراط في العمل على معالجة قضية ما وتحتاج إلى قراءة جيدة للمدينة تحقق المفهوم الحقيقي للمجتمع المدني الذي يؤمن بأن المشاركة فيه تعبر عن مفهوم تربوي يدركه المواطنون في عمق ثقافتهم ويدافعون عنه لأنه جزء من فلسفة بناء المجتمعات الحديثة والتفاعلية؛ فالعمل الجماعي هو الخطوة الأولى نحو الإبداع إذا ما أردنا أن نكون في مستوى طموح المشاركة المرجوة، وأن نفكر بنظرة أشمل وأوسع تجاه إدارة شؤوننا المحلية واتباع المنهجية العملية والعلمية السليمة تجاه ذلك، وأن نستشعر حجم التحديات التي تواجهها مدينة الرياض وتعيشها حالياً، ودورنا في المشاركة في مجابهتها بالرأي والفكر السليم وأن نمنحها الوقت الأكبر من نقدنا ومناقشاتنا في الوقت نفسه الذي يجب أن ننصف فيه الرياض بما يدفع إدارتها إلى مواصلة العمل الحثيث تجاه التطوير والتنمية.
وحقيقة ما دفعني لكتابة هذه السطور هو صديق من دولة الإمارات العربية المتحدة يقوم بإعداد رسالة دكتوراة في تخطيط المدن عن (معدلات نمو المدن العربية) وكان يرغب في أن يختار إحدى المدن العربية كحالة دراسية لأطروحته حيث قمت بتقديم اقتراح له بأن مدينة الرياض ستكون الخيار الأفضل لأطروحته كونها مدينة غنية بالتجارب والمتغيرات العمرانية من تاريخ نشأتها والتي ستكون كفيلة بإثراء بحثه الأكاديمي، وبالفعل قدم لزيارة الرياض للمرة الأولى وكنت مصراً على أن أثبت له أن الرياض مدينة ثرية بتجربتها في التطوير وكنت واثقاً من إقناعه بذلك ثقتي بأنه سوف ينظر للرياض نظرة تخصصية منصفة مبنية على المعرفة والخبرة الأكاديمية والعملية في تخطيط المدن.
أثناء خروجنا من المطار ونحن في الطريق إلى وسط المدينة شرحت له أن المخطط الرئيسي لمدينة الرياض وضع عام 1968 وتم الانتهاء منه عام 1972م من قبل المخطط العالمي (دوكسيادس) حيث توقع حينها أن تستوعب الرياض 1.4 مليون نسمة بحلول عام 2001م على مساحة قدرها 304 كم2 إلا أن التوقعات فاقت ذلك حيث إنه وبحلول هذا التاريخ تخطت الرياض حاجز الـ 4.5 ملايين نسمة أي ثلاثة أضعاف الرقم المتوقع، بالإضافة إلى أن مساحتها تعدت خمسة أضعاف المساحة المقترحة (المصدر: www.arriyadh.com)، وحين رأيت الدهشة قد ارتسمت على وجه هذا الصديق من خلال هذه المعلومة أيقنت أنه استقرأ فعلا حجم التحديات التي مرت وتمر بها مدينة الرياض ما طمأنني بأنه سيكون موضوعياً في حكمه على الرياض حيث إن مثل هذا التحول النوعي والكمي في مسيرة التنمية العمرانية لمدينة الرياض كان كفيلاً بأن يحدث خللاً في التركيبة العمرانية وفي توازن النمو القطاعي في المدينة إلا أن الرياض ورغم ذلك حافظت على هذا التوازن بصورة جيدة وناجحة نتيجة القرارات التخطيطية الملائمة للإدارة الحضرية التي اتخذت لتوجيه وضبط وترشيد النمو العمراني للمدينة؛ مما قلل من مستوى التدهور العمراني، بل وأسهم في قيادتها لمستقبل عمراني متطور ومتميز نتيجة ثبات الرؤية المستقبلية الشاملة لإدارتها؛ مما أتاح للمدينة أن تخوض تجربة ثرية وفريدة من نوعها على مستوى العالم في أسلوب مواجهة التحديات وإدارة الانفجار السكاني إدارة منطقية وجادة؛ مما جعل الرياض من أقل المدن التي تحوي مناطق عشوائية أو تلك التي تحتضن مدن الصفيح على أطرافها، إضافة إلى أن الدراسات الحالية تشير إلى أن المخطط الاستراتيجي الشامل لمدينة الرياض قد أعد لاستيعاب 10.5 مليون نسمة بحلول عام 1442هـ مما يثبت أن الرياض تسير بخطى واثقة وطموحة أمام تحدياتها الحالية والمستقبلية؛ مما يجعلنا نؤمن بأن إدارة المدينة عملت وتعمل على ممارسة العمل بنظام المتابعة الفعال ذلك الأسلوب الذي منحها قدرة التعامل مع مرحلة النمو الحضري الطبيعي غير المخطط Compact Organic Growth ومرحلة التضخم الحضري Planned Suburban Sprawl مما أسهم أيضاً في دعم مبدأ التنمية المستدامة Sustainable Development.
وبعد أكثر من أسبوعين قضاها هذا الصديق في التعرف على مدينة الرياض غادرها وقد تملكته القناعة بأن الرياض تجربة فريدة وغنية وحرية بالبحث والدراسة والتأمل، غادر وهو يردد أن ثمة مقارنات غير منطقية بين الرياض ومدن أخرى؛ فالرياض - على حد قوله - مدينة نجحت في التنمية المتوازنة ولم تكن الإفرازات السلبية لتلك التنمية محجمة لقطاعات أو جوانب حياتية مهمة، وهذا ما يندر أن تجده على مستوى العالم، أيقن أنه لا يوجد مثل الرياض إلا الرياض من خلال معايشته الواقعية التي عاشها لحظة بلحظة وساعة بساعة، غادر وهو يرسم في مخيلته صورة حالمة لهذه المدينة التي أصر على أن يسبق اسمها دوماً بوصف (العاصمة الأنيقة) إيماناً منه بأنها مدينة تستحق الإنصاف.
تحليلات هذا الصديق ومشاهداته عن مدينة الرياض أشعرتني بأنني أتجول فيها للمرة الأولى، ووصفه للرياض كان مختلفاً؛ إذ أشعرني أيضاً بأننا غير منصفين لهذه المدينة الأنيقة؛ لأننا لم نتفاعل معها بالصورة المرجوة ولم نسوّق الرياض إعلامياً بالشكل الكافي والمستحق عطفاً على ما وصلت إليه من مستوى عالٍ من التطوير والكفاءة في تقديم البنية التحتية، حديثه هذا منحني الفرصة لأن أنظر إلى الرياض نظرة أكثر إيجابية وتفاؤلاً بمستقبل واعد وأكثر إشراقاً، كيف لا وهي المدينة التي نؤمن جميعاً برؤية إدارتها؛ بأن كل شيء في الرياض يبدو حلماً ولكن الرياض عودتنا على تحقيق الأحلام.
أخيراً، فإن إنصافنا لمدينة الرياض يبدأ بتفاعلنا مع إدارتها ومعرفة المهام المنوطة بنا كمجتمع المدينة - أفراد وجماعات ومؤسسات - واستيعابها بالشكل المطلوب تجاه ممارسة دورنا في منظومة العمل المشترك وتفاعلنا مع إدارتها بدءاً من مستوى الوحدة السكنية والمجاورة السكنية والحي السكني وأن نفرد النقاش للقضايا الرئيسية التي تهم الشريحة الكبرى من السكان وتؤثر في سياسة التنمية والتطور وأن تكون مشاركتنا مشاركة إيجابية تهدف إلى التطوير بروح الفريق الواحد، حيث بات التفاعل مع أنظمة المدينة وتشريعات إدارتها بتفكير إيجابي أمراً مهماً ومطلباً ملحاً يفرضه واقع المتغيرات العمرانية التي تمر بها المدينة. إن ثمة تطبيقات عملية للإدارة المحلية على مستوى المدينة نشاهدها في دول أوروبية عدة نحن أولى بتطبيقها والأخذ بها عطفاً على ما يميز مجتمعنا من خصائص اجتماعية تدعو إلى التكامل والتعاون بيننا على أسس استمدت من شريعتنا الإسلامية السمحة.
ما زلنا نحلم باليوم الذي نصل فيه إلى مستوى تسند فيه إدارة المجاورة السكنية إلى ساكنيها، وإدارة الحي إلى ساكنيه، وتطبيق الإدارة الذاتية للمستويات المختلفة للتجمعات السكانية داخل المدينة في صورة تكفل على الأقل إعادة بناء للنسيج الاجتماعي على المستوى المكاني وتسهم في الارتقاء بعلاقة المواطن ومدينته وتنمي الحس الانتمائي للمكان وتحقق مستوى جيداً من التنسيق والإدارة وتخلق فرصة للتقليل من أعباء الصيانة التي تثقل كاهل إدارة المدينة وتستنزف مواردها بصورة مستمرة وتسهم في التوجيه الأمثل للقدرات والطاقات؛ وهذا يدفعنا إلى تهيئة المجتمع لتحمل هذه المسؤولية وتأهيله لممارسة هذا الدور.
إن تجربة الإدارة المثلى التي خاضتها وتخوضها الرياض في مجابهة التحديات التنموية المختلفة وما تشهده الرياض اليوم من ثورة في التنمية والتطوير جعل منها واجهة عالمية تنافس بتطورها أرقى مدن العالم التي سبقتها بمئات السنين واستطاعت أن تضع لها مكانة مرموقة في موقع الصدارة مع المدن ذات المستويات الحضرية المتطورة؛ وذلك بفضل جهود حثيثة بذلت وتبذل للرقي بها ووضعها في مكانتها المستحقة من بين مدن العالم.. فهل حان الوقت لأن ننصف الرياض.. العاصمة الأنيقة؟
م. بدر بن ناصر الحمدان
مهندس تخطيط مدن
|