شعرت بإنهاك.. وبرغبة شديدة في الاسترخاء.. كان هناك ثمة عناء.. وعندما أوشك النهار على الرحيل.. كنت انتظر أن يداهمني الليل - بسواده الكاحل، لألقي جسدي المنهمك على السرير.. ومع نسمة أول الليل، أطبقت أجفاني لأنام.. هناك صوت في الخارج يقترب شيئاً فشيئاً، نعم طرقات خفيفة على باب الغرفة.. قليلاً فيزداد.. حلّق النعاس عن عيني إلى المدى البعيد.. ورفرف جفناي لثوان أما رئتاي فما عادت تستطيع أن تستقبل جرعة هواء جديدة بخطوات بطيئة توجهت صوب الباب لأفتحه.. وعندما أمسكت بالمقبض.. أحسست برعشة هزت كياني.. وبقوة فتحته.. عينان بريئتان تشعان ببراءة الطفولة..
كانت ترتدي قميصاً ضعيفاً ومعها تلك الدمية التي تصغرها قليلاً.. جلست بين ركبتي ومسحت بيدي على رأسها.. ألم تنامي بعد.. قالت وبشغف أريد البحر.. أمسكت بيدها وهي تجر خلفها دميتها.. ذهبت بها إلى فراشها وجلست بجانبها أحكي لها قصصا طفولية.. ثم عادت وقالت: (أريد البحر) قلت: غداً سأذهب بك إلى البحر.. ثم خلدت إلى النوم وهي تردد (أريد البحر) وكأن تلك الدمية تساعدها على ذلك.. بخطوات متثاقلة عدت إلى غرفتي.. وكان ذهني لا يزال مشدوداً لما قالت.. أحسست أنها أثارت زوبعة من جدل.. وداخلي تحرق صخباً لبوحها البريء.. ستار الليل يبدو حالكاً.. ورغبتي في الاسترخاء لم تعد مغرية.. ولكن صمت آخر الليل يمتد.. وكان نومي متقطعاً عصياً كالعادة.. استدرت آلياً إلى باب الشرفة.. كان هناك ضوء خافت ينبعث من بين تلك الشقوق.. ورغم تعذر الرؤية الواضحة.. كانت تطل على الشاطئ الهادئ الرابض بين حلكة الظلمة وزهو الضياء - وبدأ وجه البراء البعيد ساكناً في العتمة.. تساءلت سراً عن فحوى هذا الاهتمام للبحر.. فهي ما زالت صغيرة.. عدت إلى السرير ونمت باستقامة على جنبي الأيمن.. ومع بداية غفوتي.. رن الهاتف الداخلي، نهضت بسرعة.. تعالى نبضي، توجهت إلى السماعة.. وآثار النوم ما تزال تسيطر عليَّ.. هذا صوتها المتفائل.. الموحي دائماً بلحظة الشروق.. وبدء نهار جديد.. وبمجرد إصغائي إلى صوتها المتفائل.. قالت: ألم تقولي إننا سنذهب غداً إلى البحر.. إذن أنا جاهزة.. وأطبقت الهاتف..
رحت أتأمل من حولي.. نظرت نحو قرص مرآة على الجدار.. وعلى صفحتها الصقيلة انعكس فيض الأنوار التي نفذت عبر الفتحات الأفقية من كل اتجاه.. تطلعت إلى الساعة أسرعت أهيئ نفسي كي لا أتأخر على صغيرتي التي قد استعدت منذ بزوغ خيوط الصباح، أمسكت بيدها ومعها تلك الدمية.. وذهبنا.. جلست على حافة الشاطئ أرقبها تتراشق بحفنات الماء.. وهي ترمق المدى الماسي.. ومن البعيد البعيد أتتني نسمة رخية تعفر بالدفء وتعبق برائحة البحر أحسست أن في أغوارها سراً دفيناً.. وكأنها تريد الطفلة.. التفت آلياً إلى طفلتي وهي تلمس الأصداف والأعشاب وقد عتقت قدماها من فردتي الحذاء وجعلتهما تلتحمان بالرمل الندي وتغوصان في اعطافه.. نظرت إلى البحر.. وكانت نظراته الغامضة أشبه ما تكون بأغوار سحيقة.. لفني شيء كالقلق، كالتوقع المرتاب.. ثم نظرت إلى الأفق وإذ بصيحة طائر البحر يجر الضفاف البعيد.. اقترب إلى الطفلة وحاول ان يذهب بها بعيداً.. حينها عصفت عاصفة.. وسحبت معها الدمية التي قد وضعتها بقربها وكأن تلك الأمواج تريدها ان مدت يدها لتأخذ دميتها.. حاولت بسرعة ان انقذها وبرذاذ الماء يتناثر على وجهي وعنقي.. وما ان وصلت إلا وقد عانقتها الأمواج وذهبت بها إلى جذر الغياب البعيدة.. في تلك اللحظة شعرت بدموعي تنهمر وتختلط مع أمواج البحر.. وفي حلقي غصة تأبى الخروج.. صرخت صرخة مدوية وحطمت أهرامات جليدي ظننت أن نفسي باكية صارخة كيف لي لا أستطيع أن أنقذها.. شعرت بتوقف إحساسي بالزمن، انقلبت فيه أعماقي رأساً على عقب.. شعرت بالتشاؤم من حالي ومن كل شيء..
جلست مهمومة كسيرة، تحمل ملامحي القهر، وفي قلبي يدب زلزال يهزني بعنف. يلون وجهي بألوان الحسرة الشاحبة.. وتنهمر دموعي بغزارة عندما تذكرت طرقاتها بالأمس وهي تقول: أريد البحر.. وكأنها ذاهبة إلى مصرعها فهي ما تزال صغيرة.. لا تعرف معنى الغدر، نعم غدرك أيها البحر.. كانت تظنه صديقاً وفياً.. ولكن توجهت إلى المكان الذي كانت تربض فيه قبل العاصفة وكان مكتوباً عليه.. وداعاً أماه.. انفجرت مرة أخرى بالبكاء.. عودي يا صغيرتي واتركي... وبعد هدوء العاصفة.. تراءت لي سلسلة من الهضاب البحرية تحمل بين أمواجها تلك الدمية، دبّ في نفسي شيء من الأمل لعودتها.. قلت في نفسي سأظل انتظرها بجانب البحر.. علها تتبع دميتها يوماً من الأيام.. فما زلت أردد (ستعود.. ستعود).
|