كثير هم المفكرون والمثقفون العرب الذين يتحلون بمواهب وقدرات فذة ومتميزة، لكن القليل منهم في هذا العصر بالذات الذي وفق في تسخير ذلك لإنتاج ثروة علمية وفكرية تنتفع بها أجيال الأمة وتستحق أن تدرج ضمن الموروث العلمي والثقافي لحضارة الأمة، إن المفكر والمثقف الغربي قد أنتج في هذا القرن إصدارات علمية وثقافية هائلة لكنه في الجملة لم ينفصل عن تراثه الحضاري الماضي ولم يتمرد عليه رغم ضلاله القديم والحديث وفق مقياسنا الشرعي. ومع أنه قد استمد كثيرا من معارفه في العلوم الإنسانية والطبيعية من التراث الإسلامي إلا أنه لم يصبغ ذلك في إنتاجه العلمي والثقافي بل راح يرسخ القيم الغربية ويحاول تصديرها للعالم الآخر بشتى الوسائل. أما بعض رواد الفكر والثقافة في عالمنا العربي وبفعل الانحراف الفكري الذي تغشاهم نتيجة لانبهارهم وتشربهم للأفكار والنظريات الوافدة فقد امضوا سني عمرهم الزاهرة في دراسة هذه الأفكار والنظريات الوافدة ليس دراسة نقدية واعية وللأسف بل دراسة النهم الظمآن المهزوم داخلياً المتلهف لتحرر يساوره من كل قيد قيمي يشعر أنه يكبل قواه العقلية عن كل جديد وعصري. فراح يغرد خارج السرب ويجهد عقله لاجترار أقوال القوم وتعريبها ومحاكاتها والإيغال في التمرد على كل ما هو مقدس بفعل نشوة الافتخار بما قد يلقاه من احتفاء وتبجيل من قرناء سوء زينوا له ما استفرغ حتى بلغ به الوهم مبلغه فعد نفسه من عظماء المفكرين الرواد التنويريين الذين سيخلد ذكرهم في تاريخ الأمة فضاعف الجهد وكثف العمل فسلط فكره وقلمه لهدم كل ما هو مقدس لدى أمته والتطاول عليه وازدرائه فحبَّر الورق بكل ما هو غث مستورد حتى امتلأت المكتبة العربية بإصداراته الفاخرة في الطباعة والتجليد الهزيلة في الطرح والبيان، ولولا زخم يعتريها بفعل مساندة مريدين وداعمين خفيين لبارت بوار الملح في أرضه. وللعبرة فكثير من هؤلاء بعد ما بلغ بهم العمر منتهاه وبعد مراجعات لا تنقصها ندامة بأثر حكمة لم تزل متشبثة بهم ولنباهة لا تنقصهم حاولوا التحول والرجعة وتصحيح المسار، لكن بعد ماذا وقد وهن العظم وكلَّ العقل واستفرغ الجهد فيما لا طائل وراءه لكن يبقى لهم حسن الرجعة وإعلان البراءة مما سلف لتبقى تجربتهم عبرة وعظة للأجيال تستخلص منها الفوائد حتى تستثمر طاقاتها ومواهبها فيما يخدم الأمة ويرسخ مبادئها في عقول الأجيال مراغمة وتصدياً للموجات التغريبية المتلاحقة. أما من أصر على منهاج التعمية والتمرد فها هو يرى بأم عينيه ثمرات جهده التعيس حنظلاً وشوكاً يصحبه الازدراء والذكر السيئ، مع نهاية كئيبة وروح متشائمة كسيرة تكسوها الوحشة وتعتريها الحيرة التي ولا شك ستفرز مزيداً من المعاناة والشقاء، ثم يكون مصير هذا الهراء والعبث الفكري الذي ظنه يوماً إبداعاً وتنويراً مزبلة التاريخ ومقبرة النسيان كما هو سالفه من إنتاج الأشقياء في تاريخ هذه الأمة المديد وصدق الله سبحانه بقوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} والله الموفق.
ص ب: 31886 الرياض 11418
فاكس: 4272675 |