Tuesday 19th October,200411709العددالثلاثاء 5 ,رمضان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

لم تنته اللعبة يا دوري..! لم تنته اللعبة يا دوري..!
د.حسن بن فهد الهويمل

الأستاذ الدكتور (محمد الدوري) المندوب الدائم لحكومة (صدام حسين) لدى الأمم المتحدة (دشن) كتابه (اللعبة انتهت) متعجلاً إصداره في ست وثمانين ومئتي صفحة. محاولاً فيه عقلنة الحديث وتقنينه، تمشياً مع تخصصه وأستاذيته للقانون الدولي في (جامعة بغداد)، قبل أن يلتقطه حزب القبيلة، ليكون لسان حالها ومقالها في أروقة الأمم معذراً ومبرراً خطيئاتها. وأحاديثه المتلفزة بين الحين والآخر، وبخاصة ما قدمته إحدى القنوات على مدى عدة حلقات، تستمرئ أخلاف الواقعية الحذرة، وتتقي لعنة التاريخ، وتفيض تحسراً ومرارة بعد فوات الأوان. ولا أحسبه الأول الذي حاول النفاذ بجلده من سبة الدهر، ولن يكون الأخير، ذلك أن فصائل الانقلابات يتقاذفون كرة الخطيئة، كي لا تستقر في شباك أحدهم، لأنها متى استقرت تشرذم الفريق بين قتيل وسجين ومشرد.
ولقد كنت مغرماً بمتابعة اللقاءات الموسعة مع عراقي الشتات وفلول الانقلابات، ممن أفلتوا من قبضة النظام، أو اختطاف المحتل، وكانوا من قبل من آلية النظام التي طحنت كل شيء أتت عليه: يقتلون، ويسجنون، وينفذون أقسى العمليات بمبادرة منهم، أو بأمر من الحاكم المتسلط. وما من أحد منهم اعترف بجنايته على أمته وجيرانه، وطلب من المعذبين في الأرض الصفح والمغفرة، والتنصل سجية محترفي السياسة، يقتلون البريء، ثم يمشون في جنازته، ويحضرون مأتمه، ويتقبلون أحرَّ التعازي بفقده.
وإذا لم يكن الهدف من قولنا الشماتة، ولا حز الرقاب، فإننا نود أن تقال الحقائق، وأن يتوقف نزيف الكذب والإسقاط وتبادل الاتهامات، وأن يتحمل المقترفون ما اقترفوا، وأن يطلبوا من شعوبهم الصفح، وأن يعظوا الممسكين بأزمة الأمور، فما عادت الأكاذيب قادرة على طمس الحقائق، وما عادت الشعوب قادرة على احتمال مزيد من العذابات. والذين لطخوا أيديهم، ودنسوا سمعتهم، ثم نجوا بجلودهم، وما زالوا يبتغون الفتنة من بعد، ويقلبون للمتابعين الأمور، لا يليق بمثلهم مواصلة الأكاذيب والمغالطات، ولا يحق لهم أن يبرروا مقترفات الأنظمة الظالمة، ولا أن يبرئوهم من الجرائم الوحشية، ولا أن يشرعنوا لغطرسة المحتل. لا مراء في أن إسقاط النظام المنيخ بكلكله على صدور المواطنين فرج بعد شدة، ولا مراء في أن حضور المحتل بخيله ورجله أذية غير محتملة وسبة دهر لا يزيلها إلا رحيله غير مأسوف عليه، ذلك أن الاحتلال - أي احتلال - لا مسوغ لتبرير وجوده. وما يعانيه الشعب العراقي اليوم إن هو إلا حصائد ما زرعته أيدي النظام البائد. وهل عاقل يرضى بما يلاقيه الإنسان العراقي من قتل همجي وإذلال مهين؟ وهل أحد يتوقع لعراق الحضارة والأمجاد عوداً حميداً في عاجل الأيام؟ لقد اقترف أزلام النظام البائد أبشع الجرائم: تقتيلاً وتنكيلاً، ولما يزل الشعب المغلوب على أمره، يتخبط في حمامات الدم، وتلك مرحلة ليست بأحسن حالاً مما كان عليها من قبل. ومع هذا يطلع علينا المرجفون القنواتيون بين الفينة والأخرى بمقترفين، يبرئون أنفسهم، ويزكون أعمالهم، ويعذرون للمعتدين، ولا يضعون أصابعهم على مكمن الداء. فسقوط أي نظام مهما كان سيئاً مؤذن بفساد كبير، يؤدي إلى فراغ دستوري، ويستدعي تدخلاً عسكرياً، يحول دون استشراء حروب أهلية. وصدق القائل:( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). و (الدوري) الذي أفضى ببعض ما لديه، تطوع الصحفي اللبناني (جورج فرشخ) بتجميع الكتاب من اللقاءات المتلفزة من قبل ومن بعد، مع شيء من الإضافات والتشذيبات الملائمة للتحولات المفاجئة.
وليس المؤلم إنكار المقترف خطيئته، ولكن المؤلم أن يساير المقولة من دون قائلها في الفقه السياسي، ممن يتقحمون أتون المشاهد السياسية دون أهلية، ثم يقطعون مع القائلين: بأن اللعبة الكونية قد انتهت. ولو أن الفضوليين المجازفين لا يضلون إلا أنفسهم لهان الأمر، ومع ذلك فلسنا نتهم القائلين ولا المتلقين بالخيانة العظمى، فلربما يكون مبلغهم من العلم ما توصلوا إليه من مثل هذه النتائج.
وكل ما نريده الكف عن تضليل (الرأي العام). وإذا كان البعض يرى أن اللعبة قد انتهت، ثم لم يتبع قوله توقعات لما سيكون، فإن آخرين سايروه بنهاية اللعبة، ولكنهم جعلوا النهاية بداية للمأساة.
واحتلال العراق من قبل قوات شقت عصى الطاعة، وفسقت عن أمر المؤسسات الدولية، التي أريد لها صد الظلم وإقامة العدل، وكف أيدي الناس الأقوياء عن الاعتداء السافر، وحفظ حقوق المستضعفين في الأرض، يعد ذلك أو بعضه بداية لعبة جديدة تسكر العقلاء وتذهل المرضعات، فهي مع آثارها السيئة ستكون مغرية للمتمردين لممارسة احتلال عسكري، يسلب الحق، ويشيع لغة القوة والغطرسة. وهذا التعدي يفوق ما تركته اللعب القاصمة في (حروب الخليج) كلها. وقضاء الأمة العربية أنها تخرج من لعبة مصمية، لتدخل في لعبة أدهى وأمر. وما الحروب والانقلابات والنزاعات والتصفيات إلا لعب يأخذ بعضها برقاب بعض، والشعوب المهمشة تدفع (فاتورة) الحساب من قوتها وأمنها وحليب أطفالها، بحيث لا تجد من يطعمها من جوع، ولا من يؤمنها من خوف. ومن ثم تصبح وقود الصدامات: العسكرية والفكرية. وليست اللعبة وقفاً على إسالة الدماء، وإنما هي في إسالة الأحبار أيضاً، وما الأحبار إلا قطرات تحيي موات الفتن، وتنبت أفتك الأسلحة، مع أن مراد النفوس أهون من التعادي والتفاني - كما يقول المتنبي -. وكم من لاعب بلاغي أودى قلمه بحياة الآلاف من الأبرياء. والأصنام لا يحكم صنعها إلا الإعلام المتواطئ، والأقلام المرتزقة، وأنكر الأصوات. وهل أحد يجهل مقترفات الكتاب الذين كذبوا على أمتهم، وأضلوها سواء السبيل؟ وهل يستطيع مغتصب أن يبني أوهامه إلا عن طريق الأقلام التي تستمرئ الكذب؟. والضالعون في التبرير والتعذير والترويض فئام من جهلة، أو متسرعين، أو مواطئين، والله وحده العالم ببواطن الأمور.
وإذا كان (الدوري) الرجل الضالع في اللعبة قد روى ل(جورج فرشخ) عن نهايتها فإن (هشام عليوان) ألف كتاباً مماثلاً، وكم هو الفرق بين لاعب في المسرح السياسي ولاعب في المسرح الإعلامي، وإن كان لكل حقه من الخير أو الشر. وبين الكتابين تباين واضح، فالأول يحاول تخفيف حدة الغضب على النظام البائد بالتأكيد على خيانة السقوط، وإن كان يدينه في كثير من المواقف، فيما يأتي الكتاب الثاني راصداً للتحولات والمصائر، موغلاً في الإدانة وتضخيم الأحداث تبعاً لما وقف عليه من فيوض الإعلام. الكتاب الأول تحت عنوان (انتهت اللعبة)، والثاني تحت عنوان (نهاية اللعبة) ولم يكن الحديث عن اللعب السياسية جديداً، فلقد سبق أولئك شرقيون وغربيون، كتبوا عن لعب كونية وأخرى إقليمية، فجاء بعضهم مدلساً، فيما جاء البعض الآخر سافر الكذب، وقليل منهم من أسر النجوى في قول الحق.
وكان قدري أنني فتحت عيني، وعقلت أمري على أحداث دامية وأقلام راعفة، تصف الانقلابات بالثورة، وليس ما يحدث في الوطن العربي، حقيقاً بأن يوصف بالثورية، وإنما هو انقلاب عسكري، يتراوح بين الدموية وحمامات الدماء، وقل أن يكون انقلاباً أبيض، لا يشوبه عنف، ولا يدنسه ظلم. والفرق بين (الثورة) و (الانقلاب) أن (الثورة) إحداث نظام، و (الانقلاب) اختلاف حكام. بمعنى أن الثورة رؤية و (أيديولوجية) وشرعة ومنهاج، فيما يكون الانقلاب تنازعاً على التسلط لا على السلطة، يكون فيها الشعب ومثمنات الوطن غنيمة. والمتحدثون عن اللعب السياسية من أربابها الذين فرغوا من أداء دورهم الغبي، قد يصدقون، لأنهم يفيضون بما لديهم، وفي حسابهم من يرصد لهم من مؤسسات وأناسي، ولقد بدأ وعيي السياسي مع كتاب (لعبة الأمم) ل (بوكلاند) فكان أن رسخ في نفسي أن كل شيء قابل لممارسة اللعب، وأن لكل لعبة قانونها المعرفي والإجرائي، ومن لم يتقن قانون اللعبة لا يحسن التمييز بين ما هو عمل ظاهره كباطنه، وما هو غير ذلك، وليس أضر على (الرأي العام) من الخلط بين الأحداث المختلفة الأسباب والدوافع، أو الخلط بين الظواهر والوقوعات.
استهل ( الدوري) كتابه بمقدمة في اثنتي عشرة صفحة، تبدت فيها أنات المذنبين وحرقة المفلسين وتبرير المخطئين، وما كنت لأفسد الحديث بسوء الظن، ولن أستبق الحكم قبل قراءة الفصول التي جاءت على شكل إجابات على أسئلة (الدوري) بحيث جاء الفصل الأول إجابة على التساؤل عن كيفية استعداد اللاعبين. و ( الدوري) أطلق كلمة (انتهت اللعبة) أو (اللعبة انتهت) في التاسع من أبريل عام 2003م، وهو قد تعمد تخفيف حدة الدعوى، بحيث وصف النهاية بأنها تعني (انتهاء المسرحية التي استمر عرضها سنوات طويلة على مسرح الأمم المتحدة). ولست هنا معنياً بالربط بين مسرحي: الواقع الذي يقوده (صدام) والمرافعات في هيئة الأمم المتحدة التي يقودها (الدوري) ، وكون أحدهما يجهز للآخر، ويدفع إليه. فاللسان والسيف كلاهما صارمان، وقد لا يبلغ السيف مبلغ اللسان، وكل الذي أوده التأكيد على أن اللعبة شبكة من الحركات والفصول، تختلط فيها الحروب الباردة والساخنة. وعند إطلاق كلمة (اللعبة) يكون هناك نسيج قوي التماسك دقيق التداخل متعدد الفصول متنوع الشخصيات. فاللعبة رواية مطلقة، وليست أقصوصة مقيدة ببطلبها وزمانها ومكانها. إن هناك عدداً من اللاعبين الأذكياء والأغبياء والظاهرين و (اللوبيين)، وإذا تكتم (الدوري) على بعضهم أو على بعض الأدوار فإن قراء السياسة يعرفونهم بسيماهم. وقدر الشعب العراقي والأمة العربية والإسلامية من ورائه أن اللعب كالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض، فها نحن نسمع ب (الصدر) ونراه، ونسمع ب(الزرقاوي) ولا نراه، وما الحرب إلا ناتج لعبة أو بداية لعبة.
لقد جاءت أحاديث (الدوري) في الوقت الضائع محاولاً ارتهانها في الوسطية، متحامياً القطعيات والحديات، متيحاً فرصة الاحتمالات ورياضة الفكر، والقارئ بهذه التعمية المتعمدة يلتاث عليه الأمر، فلا يحسم امراً في الشأن العراقي. والمذكرات والذكريات واليوميات والسير الذاتية السياسية، يمارس أصحابها لعبة التطهير والتدنيس في آن: تطهير الذات، وتدنيس الآخر. فيما يأتي حديث (الدوري) محاولاً المخادعة بالحيادية. والحيادية التي حاول التمويه بها لم تخلصه من شوائب الانفعال والافتعال، ولهذا حول كل الأفعال إلى مفردات في متن اللعبة الكونية. ولأن السياسة هي (النص) الحقيقي الذي يشتمل على ظاهر وباطن، وقد يتسم الظاهر بالرحمة والباطن بالعذاب، فإنه لا يحق الحق في مثل هذا اللبس إلا أن نفقه قواعد اللعبة، فهي التي توفر القدرة على قراءة الحدث السياسي وفق توجيه القواعد، متى استمدت كينونتها من المنطقية والعلمية.
والذين يعوِّلون على وسائل الإعلام في تفكيك الحدث السياسي، لا يتجاوزون ظاهر الرحمة، وبذلك يهيئون أنفسهم لباطن العذاب.
وليس أضر على الأمة من نمطية القراءة والتسليم لمقولة اللاعب الذي ربط القول بالفعل. وكل لعبة يؤرخها قوم، ويصفها آخرون، وتحللها فئة، وتقومها فئة أخرى. وإذا لم يتوفر المتعاطون معها على فقه الأحداث وقواعد الفعل وآليات التفكيك ومناهج التحرك فإن احتمالات التضليل أقوى من احتمالات التنوير، ولقد أشرت إلى المعولين على وسائل الإعلام ومثقفي السماع. والإشكالية أنهم الأكثر حضوراً والأندى صوتاً، وفيهم ومنهم تتشكل الرؤى والتصورات، وناتج ذلك أن الأمة لما تزل في مرحلة التيه، ولن ينجيها من عذابات اللعب وتتابعها ونمطيتها إلا أن تقوي إيمانها بأن الأحداث لا تقرأ وفق رغبة الصانع للحدث أو منفذه، وما أحوج القراء إلى (موت المؤلف) ليخلوا للمتلقي وجه الحدث.
والكتابان (انتهت اللعبة) و (نهاية اللعبة) يقعان تحت طائلة تلاحق الأحداث التي قد تصنع نفسها، إذ لم تكن كلها ناتج إعداد مسبق، ومن ثم فقد يكون للأحداث المفاجئة دورها في نهاية دور الكتابين. (هشام عليوان) مؤلف كتاب (انتهت اللعبة) متابع للأحداث من الخارج، وراصد لها بالحرف والصوت والصورة، وهو قارئ للحدث من الخارج، فيما يكون مؤلف (نهاية اللعبة) (محمد الدوري) من منفذي الحدث غير أنه يتحامى قول الحقيقة عارية من لغة السياسة المراوغة. وإذ يجزم (عليوان) بأن لعبة جديدة قد بدأت، يقطع (الدوري) بأن اللعبة الكبرى قد انتهت، وأن ما يليها حصادها.
فالمتغيرات في نظر البعض نتائج، وليست لعباً جديدة، والإشكالية أن بعض قراء الكف السياسي يرون الفصل بين لعبة وأخرى، وأن كل لعبة لها ذيولها ونتائجها التي تستأثر بالمشهد السياسي، فيما يذهب آخرون إلى أنه لا مجال للفراغ، فاللعب كحلقات السلسلة، والنتائج لا تحول بين اللعبة وتاليتها. ويبدو لي أن (الدوري) يقول بنهاية اللاعبين، وليس معنياً بما يليهم، إذ ليس شرطاً أن يتلقف فريق اللعبة المنتهية راية اللعبة اللاحقة، ومن ثم فإن اللعبة بالنسبة له منتهية لأنه يربطها باللاعبين. وعلى كل الأحوال فإن (الدوري) لا يكشف المخبأ، ولا يستحضر الغائب، ولكنه يكشف عن نفسه، ويستحضر دوره، وهو كشف واستدعاء يلتحفان رداء التطهير الذاتي.
كل الذي نوده، ونحن نرثي لأحوال اللاعبين المنبوذين ك (الدوري) أن يكفوا عن ترميم السمعة المدنسة، وأن يدعوا للتاريخ فرصة ملاحقة (الأحداث، ليدونها بصدق وأمانة، وإذ لا يقدر العالم العربي ونخبه المتشرذمة على درء الضرر، فلا أقل من أن يتعظ الجميع بما يجري، بحيث لا تكون الأمة ونخبها كمن عُمِّيت عليهم الأمور، فصاروا وليمة مرتقبة لأكلة نهمين. فهل نتعظ بالآخر. أم نتعظ بأنفسنا، أم لا نتعظ بشيء، ونكون كالسائمة ترقب فراغ الجزار؟.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved