جاء الإسلام يحمل للناس تشريعات صالحة ومبادئ سليمة اطمأنت إليها نفوسهم وأقبلت عليها قلوبهم واستساغتها عقولهم تنير لهم سبل الحياة وتكشف ما خفي عنهم فهمه وتجيبهم عما يسألون في رفق وتدرج؛ فجاءت أحكام تقيد أحكاماً أخرى أو تنسخها وتأتي بخير منها؛ فهي بذلك شريعة متدرجة متطورة، ويتضح ذلك عن طريق مخاطبتها الناس وتتبع أحكامها في مصادرها الأساسية، وهي: القرآن والسنة، والاجتهاد.
في القرآن
نزل القرآن الكريم منجماً والحكمة في ذلك هو التدرج في تربية هذه الأمة الإسلامية الناشئة علماً وعملاً؛ حتى يسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره ويتمكنوا من فهمه.
تدرجت الآيات القرآنية في تحريم ما كان متأصلاً في نفوسهم من قبيح العادات ورذيل الخصال؛ ولهذا بدأ الإسلام يمحو من نفوسهم الشرك وعبادة الأوثان ويحل في قلوبهم عقيدة التوحيد والإيمان بالله وإبطال أي معبود سواه سبحانه وتعالى.. ثم انتقل إلى العبادات ففرضها تدريجيا فشرع الصلاة قبل الهجرة وفرض الصوم والزكاة في السنة الثانية من الهجرة، وفرض الحج في السنة السادسة. وكذلك كان الشأن في الأخلاق، فقد ابتدأ القرآن يزجرهم عن الكبائر ويشدد النكير عليهم فيها ثم نهاهم بعد ذلك عن الصغائر في شيء من اللين والرفق وتدرج الإسلام أيضا تدرجاً حيكاً في تشريع المعاملات وغيرها فكان بذلك أهدى سبيل وأنجح تشريع، قال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} ومن يقارن بين الآيات المكية والآيات المدنية يدرك تدرج التشريع؛ فالآيات المكية لم تتعرض لأحكام تفصيلية، وإنما تعرضت في الغالب للعقائد وتثبيت روح التوحيد ومحاربة الشرك ودعمت مبادئ الإيمان مما أفضى إلى دخول العدد العديد من الناس في الإسلام حتى تكونت (أمة) تجمعها عقيدة واحدة، والآيات المدنية تعرضت لكثير من التفصيلات التشريعية ولا سيما فيما يتعلق بالمعاملات تمشياً مع سنة التطور واعتباراً لما ترتب على استقرار المسلمين في المدينة المنورة أخذ القرآن يدعو الأمة الإسلامية لتنظيم جميع شؤونها وحياتها الاجتماعية وهكذا ظهر لك أن القرآن سلك سبيل التدرج والارتقاء والتطور مقدماً الأهم على المهم.
والنسخ في الشريعة الإسلامية دليل آخر على تدرج الأحكام وتطورها؛ لأن مصالح الناس تختلف باختلاف الأوقات فإن الفعل قد يكون في وقت ضاراً وفي وقت آخر نافعاً فيطلب تركه والابتعاد عنه في الأول ويطلب فعله في الثاني، ولذلك نزلت آيات متضمنة أحكاماً ثم نسخت تحقيقاً للتدرج الذي يمكن من تربية قوم تأصلت فيهم عادات لا تعتمد على هدى وحكمة ومألوفات بعيدة كل البعد عن الصواب والرشد اعتقدوا أنها أخلاق كريمة وصفات حميدة، ولم يكن من الحكمة أن تنتزع منهم قسراً، ولا من النجاعة أن يؤمروا بالابتعاد عنها دفعة واحدة، بل الحكمة أن ينقلوا تدريجياً من حالة إلى حالة تليها حتى إذا انتقلوا للثانية دعاهم إلى ما بعدها إلى أن يصلوا إلى درجة رفيعة ممتازة.
ومن أمثلة التدرج في التشريع بواسطة النسخ الجهاد، فقد كان الإسلام في أول أيامه محتاجاً إلى العزائم الصادقة وإلى من يثبت دعائمه ويقف في وجه المعاندين وإلى من يضحي بنفسه وماله ومصالحه فيكون فدائياً لهذا الإسلام وهذه العقيدة، ولما كان عدد الذين آمنوا بهذا الدين الجديد قليلاً بالنسبة لقوة الشرك المقابلة أمر الله المسلمين بأن يبذلوا ما فوق الطاقة وأن يضحوا في سبيله بجميع أنواع التضحية وأن يثبتوا أمام العدو ولو كانت قوته تفوق قوتهم بعشرة أضعاف قال الله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}.
وهذا هو الموقف الطبيعي الذي يتخذ عادة في بداية كل دعوة إصلاحية إذ يطلب من أنصار هذه الدعوة في أول قيامها أن يقفوا المواقف الخالدة وأن يضحوا تضحيات بطولية حتى تنتصر وتتمكن دعوتهم وتعتز بكثرة المناصرين والمؤيدين لها.
ولما سجل المسلمون انتصارات عظيمة ودخل الناس في دين الله أفواجا وأمنوا شر العدو نسخ الله الحكم الأول بقوله: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
في السنة
جرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته على المنهج القرآني المتطور فكان يتدرج في التشريع أيضاً، وقد يكشف عن علل بعض الأحكام المتغيرة ويعلن عما في تغييرها من مصلحة، قال ذات يوم لأصحابه - رضوان الله عليهم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) ذلك لأن العرب في جاهليتهم كانوا يعظمون قبور الآباء والأجداد ويقيمون حولها المحافل.
فنهى الرسول أصحابه في أول الإسلام عن زيارتها خشية أن يدفعهم قرب عهدهم بوثنية قومهم إلى ما كانوا يفعلون في الجاهلية، ثم لما انتهى هذا الخوف برسوخ عقيدة الإسلام في القلوب وقضائه على جميع آثار الوثنية أباح لهم زيارة القبور وربطها بالخير المنبعث من تذكر الآخرة.
في الاجتهاد
لا يعتمد التشريع الإسلامي في أحكامه على الكتاب والسنة فحسب بل يعتمد أيضا على الاجتهاد الذي هو حركة العقل الإنساني المستنير القادر على التطور بتطور الأحداث واختيار الأحكام الملائمة للظروف والأحوال شريطة أن يستند إلى كتاب الله وسنة رسوله ومبادئ الإسلام العامة. ومن أهم ما يدل على أن في الاجتهاد تطوراً اعتماد المجتهدين العرف والاستحسان فيما يستنبطونه من أحكام.
العرف
بني جانب غير قليل من الأحكام على العرف؛ فكان دليلاً على تطور الشريعة الإسلامية ولا سيما في باب المعاملات فيقول بعض الفقهاء: (الأحكام تبنى على العرف فيعتبر في كل عصر عرف أهله) ويقول بعضهم: (العادة دليل أصولي بنيت عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام).
والعرف المعتبر عند المجتهدين هو الذي لا يخالف دليلاً أو أصلاً من أصول الشريعة الإسلامية، ومن أمثلة اعتماد العرف مسألة الكفاءة بين الزوجين ومسألة النفقة التي يرتبط تحديدها وتقديرها بالأعراف المتغيرة.
ولعل أكبر مظهر من مظاهر الرعاية لعرف الناس يتجلى في مذهب الإمام الشافعي الذي تطورت آراؤه عندما انتقل من العراق إلى مصر إذ عدل عن بعض ما دونه في مذهبه قبل أن ينتقل إلى مصر متأثراً بعوامل كثيرة، من ذلك التأثر بالأعراف والعادات الجديدة التي تكون منها مذهبه الثاني الذي عرف بالجديد.
الاستحسان
والاستحسان مظهر آخر من مظاهر التطور أيضاً ومنه تجويز بيع الاستصناع وهو أن يوصي المشتري صانعاً ليصنع له شيئاً، والأصل أن هذا البيع غير جائز؛ لأنه بيع شيء غير موجود، وقد نهي عن بيع المعدوم لما فيه من الضرر المفضي إلى النزاع، ولكن الناس في بلاد كثيرة وأزمنة مختلفة تعارفوا على ذلك دون أن يفضي بهم هذا التعامل إلى نزاع فأجازه بعض العلماء بل استحسنوه اجتهاداً؛ فحمداً لله على هذه الشريعة الإسلامية المتطورة التي تلائم وتصلح لكل زمان ومكان.
|