Sunday 17th October,200411707العددالأحد 3 ,رمضان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "وَرّاق الجزيرة"

عبدالرحمن بن عثمان الجاسر.. غُرَّةٌ في جبين الدّلم عبدالرحمن بن عثمان الجاسر.. غُرَّةٌ في جبين الدّلم

كان عام 1354هـ موعداً لميلاد شيخ الدلم وابنها البار عبدالرحمن بن عثمان الجاسر، حيث ولد من أبوين كريمين، فأبوه عثمان بن محمد الجاسر العمور الدوسري وأمه فاطمة بنت علي السماري.. وقد توفيت أمه وهو صغير فتزوج أبوه امرأة أخرى هي أم أخويه محمد وعبدالعزيز، ونشأ شيخنا نشأة جدّ وكفاح وطموح لا يحده شيء ولا يقف عند عقبة أو حاجز.. فبدأ طلب العلم منذ الطفولة على يد الكتاتيب ودرس على يد عدد من المشايخ ومنهم:
1- مطلق بن عبدالرحمن المطلق.
2- أحمد بن عبدالله بن عتيق.
3- محمد بن أحمد المهيني.
وعلى أيدي هؤلاء تعلم القرآن ومبادئ الكتابة والقراءة.
ثم درس على يد الشيخ عبدالعزيز بن باز حين كان قاضياً للخرج ومقره في الدلم، ثم على يد الشيخ عبدالرحمن بن فارس والشيخ صالح الخريصي.. ومن أساتذته في الدراسة الابتدائية في أول مدرسة افتتحت في الدلم (مدرسة ابن عباس) وكانت تسمى (مدرسة الدلم السعودية) وافتتحت عام 1368هـ.. من أساتذة شيخنا في هذه المدرسة عدد من طلاب الشيخ ابن باز ومنهم: عبداللطيف بن شُدّيد وصالح بن حسين العراقي رحمهما الله جميعاً.
وانتقل الشيخ إلى الرياض رغم قلة الإمكانات وشح الموارد لمواصلة الدراسة، فدرس في معهد الرياض العلمي وكانت مدة الدراسة أربع سنوات، ونجح منهياً تلك السنوات الأربع سنة 1377هـ، وبعده التحق بكلية الشريعة بالرياض وتخرج فيها سنة 1382هـ، وأثناء دراسته في الرياض كان إماماً لجامع العماج بحي الشميسي بالرياض لمدة ثلاث سنوات ثم إماماً لمسجد الأمير طلال بن عبدالعزيز في الفاخرية لمدة سنتين.
بعد تخرج شيخنا عين مدرساً في معهد بلجرشي العلمي.. فوصل إليها سالكاً طريقاً برياً غير معبد.. وبصعوبة بالغة وصل إليها ومكث فيها سنتين ثم انتقل إلى بلده ومبدأ نشأته وموطن صباه (الدلم) فدرس في المعهد العلمي في الدلم منذ عام 1385هـ حيث افتتح المعهد قبل ذلك بسنة أي عام 1384هـ وكان مدير المعهد هو الشيخ ثنيان بن عبدالرحمن الثنيان.
فهل الشيخ عبدالرحمن الجاسر مدرساً بالمعهد حتى عام 1390هـ، وهو العام الذي انتقل فيه الشيخ ثنيان إلى الرياض فعين شيخنا مديراً للمعهد حتى عام 1416هـ حيث أُحيل على التقاعد.
ولقد كان لي شرف معرفة الشيخ والقرب منه والتتلمذ على يديه، حيث كان والدي -حفظه الله- مدرساً في المعهد منذ عام 1388هـ حتى عام 1411هـ تقريباً.. ودرست في المعهد ست سنوات من عام 1392هـ حتى عام 1398هـ ثم صرت مدرساً في المعهد من عام 1408هـ.
وذلك القرب من الشيخ هيأ لي فرصة معرفة الشيخ صديقاً لوالدي واستاذاً لي ثم مديراً اعتز بتوجيهاته وحزمه واخلاصه.. ثم أباً ثانياً بعد تركه للعمل الحكومي فأفدت منه كثيراً واستمر الود بيني وبينه إلى أن ودع الدنيا.
وسأورد صورة من صور أبوته وأستاذيته التي أعتز بها واحملها تاجاً لثقافتي وأدبي:
لقد عمل الشيخ في الدلم مدرساً ثم مديراً للمعهد العلمي في الدلم، ندرس على يديه وأفاد منه المئات والآلاف من ابناء الدلم ممن يتسنمون مناصب قيادية في كثير من المرافق الحكومية في الدلم وغيرها.. بل إن طلابه كانوا قبل ذلك في بلجرشي ومنهم الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف -حفظه الله- ولقد حفظ الشيخ علي لشيخنا الود وبرَّ به حيث كان يزوره في الدلم ثم في المستشفى أيام مرضه.
ولم يكن العمل في المعهد العلمي هو شغل شيخنا الوحيد، بل إنه كان يقوم بأعمال أخرى منها:
1- إمامة جامع الدلم الكبير لمدة ثلاثة عشر عاماً، حيث كان معلماً واستاذاً لأئمة المساجد الأخرى، افادوا منه ومن علمه واسلوبه وحكمته.
2- إدارة المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد التابع للرئاسة العامة للبحوث العلمية والافتاء آنذاك .. حيث كان الشيخ من المؤسسين للمكتب.. فأداره بحكمة وقدرة عالية من الإدراك للمسؤولية وحسن اختيار برامج المكتب وأوجه نشاطه.
3- وتبعاً لإدارة المكتب كان الشيخ مفتياً ومرشداً ومصلحاً بالخرج عامة وفي الدلم خاصة؛ لأنه كان محل ثقة الشيخ عبدالعزيز بن باز وغيره من المشايخ في الخرج، فكان هاتفه في البيت وفي العمل لا يقف ساعة دون سؤال متفهم أو طلب فتوى او طلب صلح وعمل بر.
4- ونظراً لعلم الشيخ وفقهه وتميزه في ذلك فقد كان يرشح لبرنامج التوعية في الحج كل عام لعدد من السنوات فيكون مفتياً ومرشداً طيلة أيام الحج.
5- وتطوعاً من الشيخ واحتساباً لوجه الله كان للشيخ دروس في المسجد وفي بيته في التفسير والحديث والتوحيد والفقه.. واستفاد من تلك الدروس عدد من طلاب العلم من أهل الدلم شيباً وشباناً.
وفوق كل تلك الأعمال كان الشيخُ شيخَ الدلم والمتحدث باسمها والنائب عن أهلها في الأمور الصغيرة والكبيرة.. ولقد تحقق -بفضل الله- للدلم تطور كبير ونهضة شاملة كان للشيخ في كل ذلك يد طولى، يكتب للمسؤولين في الدولة ويخاطب المحسنين ويسعى لدى فاعلي الخير والبر لدعم مشروع خيّر أو مؤسسة إحسان أو سد حاجة محتاج أو إصلاح بين متخاصمين.
تلك صفحات من حياة الشيخ يعرفها من عاشوا قريبين منه وتعاملوا معه، ونعموا بالصداقة معه.. وكنت قد اشرت إلى جوانب من ذلك فيما كتبت عن حياة الشيخ، ونشر بعد وفاته.
ولكن صفحات أخرى أجزم أن كثيراً من الناس الذين يعرفون الشيخ لا يعلمون بها.. وأجزم أن الذين يعرفونها نفر قليل من طلاب الشيخ في المعهد أو في حلقات دروسه في المسجد.
ومن أبرز تلك الصفحات درجة عالية من:
- الثقة في الله واليقين بوعده، والرضا بقدره.. وقد لمست ذلك وعرفته من أول يوم رأيت الشيخ وجالسته إلى وفاته، وبخاصة فترة مرضه.
- ومن الصفحات المجهولة من حياة الشيخ بُعد النظر وحب الخير للناس والفرح الشديد بتحقق الآمال لكل مجتهد ومثابر من طلاب الشيخ وجيرانه وأقاربه وغيرهم.
- ومن الصفحات المجهولة من حياة الشيخ حبه للوطن.. الوطن المملكة العربية السعودية، فهو يكره السفر خارجها ويمقته ويحذر منه.. ولم يسافر خارج المملكة الا مرة واحدة، اضطره المرض فيها إلى الذهاب إلى أمريكا للعلاج وصحبه في ذلك السفر اثنان من ابنائه. وهو يحب الوطن.. الدلم، والدلم هي مرتع الصبا وموطن الأهل ومكان سعة الرزق وانجاب الذرية.. فلماذا لا يحبها الشيخ حباً ملك شغاف قلبه وملك فؤاده وسار مع الدم في عروقه، وترجم ذلك الحب في جهوده التي بذلها في سبيل النهوض بالدلم وسعيه لجعلها مدينة تتوافر فيها سبل العيش الرغيد ووسائل الراحة والأمان والعلاج والتعليم وغيرها.
ولقد عبر الشيخ عن حبه للدلم في قصيدة رائعة بلغت خمسين بيتا منها قوله:


أحببتها من صميم القلب مُذْ درجت
رجلاي في أرضها بالطهر من ماها
تلك الوديعة ما أبهى مرابعها
بين الجبال وبين الرمل مبناها
سمراي في وسط من روضها عبق
يفوق رائحة الكادي خزاماها
أرض الجمال وأرض الرزق ما قبضت
في وجه قاصدها بالشح يمناها
يا راحة البال في سكنى ومنتزه
وغاية الحسن تزهو في صباياها

ويربط الشيخ ماضي الدلم بحاضرها، فيشير إلى مزاحمة مدينة (السيح) لها، وتحول مسمى (الخرج) إليها وتناسي الدلم التي هي الأصل فيقول على لسان الدلم:


أنا الأصيلة في خرج عرفت به
أنا الأصيلة في سلم وحرباها
إذ كنت عاصمة للخرج يتبعني
من القرى عددٌ العدُّ أحصاها
وغيرها هجر في كل ناحية
هل قلّ شأني أو التاريخ أخفاها
سلوا زميقة أو نعجان عن سلفي
سلو اليمامة عن من كان قاضاها
سلوا الضبيعة عن سوقي ومحكمتي
سلوا الهياثم عن وقت منشاها
أليس في الدلم المعروف مرجعهم
وكل من صعبت شكواه وأتاها
والسيح ما كان موجوداً به أحد
إلا السباع وماء العين مجراها
فإن أكن مركزاً قدري محافظة
والناس من شأنها تنظيم دنياها

ولماذا يحب الشيخ الجاسر الدلم.. يجيء جواب هذا السؤال في ختام القصيدة:


يا لائمي في هوى من كنت أهواها
لا تكثر اللوم إن اللوم أغلاها
ما الحب للطين والجدران خالية
وإنما حبنا من هام سكناها
أهل الوفاء وحفظ العهد من قِدَمٍ
الأصل منشأها والدين سيماها

لقد كان الشيخ عبدالرحمن الجاسر وفياً غاية الوفاء، وكان مربياً نادر المثال.. يأخذ بيد من يربيه ويعلمه حتى يوصله إلى قمة الأدب الحسي والمعنوي.. لمس ذلك أبناؤه من صلبه، كما نعم بذلك تلاميذه الذين أعد نفسي واحداً منهم، فتعلمنا منه:
* الصبر على طلب العلم والمطالبة بالحق، والصبر على أذى الناس.
* وتعلمنا منه البذل والتشجيع للصالحين، ورعاية برامج الإصلاح والتوجيه للناس وبخاصة الشباب.. وما تشجيعه للمراكز الصيفية الا مثال واحد من آلاف الأمثلة.
* وتعلمنا منه سعة الأفق وعمق النظر للأشياء والتثبت في الأمور.
* وتعلمنا منه حسن الخلق مع الكبير والصغير، وأسلوب التعامل مع المسؤولين وولاة الأمر.
* وتعلمنا منه التواضع والزهد واللطف في توجيه المخطىء والجاهل.
أما تواضعه وتقديره للآخرين، وتشجيعه للمواهب وحفزه للهمم فشيء وجدته مراراً طول معرفتي به.. ولعل أعمق مثال على ذلك في نفسي هو جوابه لي حينما بعثت إليه أبياتاً من شعري.. ولم يكن رأي لي نظماً، فسر بها وكتب إلي جواباً أبياتاً تفيض تواضعاً وبراً.. كتب تلك الأبيات وهو على سرير المستشفى العسكري بالرياض، وكان من أبياتي التي أرسلتها إليه:


لكم فضائل لا نحصي لها عدداً
قد عمت الجمع أقصانا وأدنانا
قد حاز معهدنا مجداً ومكرمة
ومن سنا نبلكم قد كان مزدانا
لقد بذرتم فطاب الغرس وانتشرت
آثاره تملأ الآفاق إعلانا
بأن نبت الهدى تزكو أرومته
وتسعد الأرض منه حيثما كانا
لا تعذلوني فإني قد رنوت إلى
مجد عظيم سمعنا منه ألحانا
وفي المعاهد أشبال الهدى نشأوا
وفي مدينتنا إن شئت برهانا
ندعوك يا رب يا رحمن تجمعنا
على المودة أعواماً وأزمانا
وان ننال بفضل الله جنته
مسكاً ننال بها روحاً وريحانا

أما جوابه - رحمه الله تعالى - فهو:


تتابعت الرسائل والقوافي
فأفسح في الضياء لها مكانا
وآخر ما قرأت وشد ذهني
محاولة تجاوزت البيانا
قصيدة شاعر لا فُضّ فوه
مدبجة الثناء لها امتنانا
فذاك أبو الوليد أخو وفاء
سيشعل من ثقافته ربانا
ومعهدنا استحث لها خطاه
ووشحت القصائد منتدانا
وآخر ما قرأت من القوافي
يترجم في الشباب لهم وفانا
وإن أبا الوليد لهم مثال
تبوأ شعره حقاً مكانا
يفيض تجاوباً ويصوغ شعراً
وينصر من تظلم أو توانا
ويدفع كل شائنة ويبقى
صفاء القلب يغمره حنانا

وفي ختام هذه السطور، لابد من التأكيد على أن ملخصاً كهذا لن يحيط بجوانب حياة شيخنا وينقل الصورة الكاملة لسيرة عطرة عاشها.. ولكنها وقفات للذكرى ولعل فيها بعض الوفاء.. وإذا كان المؤرخون قد قالوا عن الفاروق -رضي الله عنه- أنه أتعب من يجيء بعده، فإني أقولها بحق هنا: لقد أتعب شيخنا عبدالرحمن الجاسر من يجيء بعده بالأعمال التي كان يقوم بها في الدلم.. فهل سيدير المعهد مدير مثله، أو سيجد الناس في البلد مفتياً ومصلحاً ومعلماً؟ .. عسى .. ولكن الطريق طويل.
لقد ودَّعت الدلم بعد صلاة المغرب من يوم الاثنين الواقع في الثامن من شهر شعبان عام 1423هـ شيخها وفقيدها.. وامتلأ جامع الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - بالمصلين.. ولم أر في الدلم جنازة حضرها وصلى عليها مثل العدد الذي حضر الصلاة على الشيخ.. وكان من المصلين عدد كبير جداً قدموا من الرياض ومن المدن المجاورة وسدت الطرق المؤدية إلى المسجد.
إن فقد الشيخ ترك فراغاً كبيراً عسى أن نجد في أبناء الدلم وعلمائها الموجودين من يسده، وفي تلاميذ الشيخ وأبنائه وأحبابه خير كثير بإذن الله تعالى.
وإني لأرجو أن ييسر الله لأبناء الشيخ سبيل جمع شعره وطبعه في ديوان؛ لأنه وكما رأيت فيه بُعْدٌ تاريخ ووثائق لفترة مهمة من تاريخ الدلم، كما أتمنى أن يطبعوا خطبه التي أداها على منبر جامع الدلم، ففيها دروس وعلم يجب أن يستفاد منه.
رحم الله شيخنا، وجمعنا وإياه ووالدينا وأحبابنا في جنات النعيم.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبدالعزيز بن صالح العسكر
ص.ب 190 الدلم 11992


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved