قبل أيام وافق الاتحاد الأوروبي على الدخول مع تركيا في محادثات قبل السماح لها بالانضمام إلى منظومته، في خطوة أعطت للسلطات التركية أملاً واسعاً للانضمام مستقبلاً إلى الاتحاد الأوروبي كما هم يطمحون. ويؤكد الخبراء أن هذه المحادثات ستكون صعبة ومعقدة ومرهقة بالنسبة للأتراك، وطويلة الأجل إلى درجة أنها قد تستمر لأكثر من خمسة عشر عاماً على أقل تقدير، هذا فضلاً عن أن هناك من الشروط المسبقة والمتعسفة التي من المتوقع أن يفرضها الأوروبيون على تركيا ما يجعلها في النهاية تنسلخ تماماً من هويتها الإسلامية - إذا كان ثمة بقية - لتلتحق بالركب الأوروبي.
وهنا يظهر الأوروبيون على حقيقتهم. فرغم أن الثقافة الأوروبية، وبالذات تلك الثقافة التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، (تدّعي) أنها ثقافة لا تنطلق من منطلقات دينية، أو إثنية، وترفع شعار (حقوق الإنسان) بغض النظر عن الدين والعرق أو العنصر، إلا أن الحقيقة على أرض الواقع هي خلاف ذلك. فالسبب الأول الذي جعلهم يرفضون الأتراك، في حين سمحوا لدول ما كان يسمى بالمعسكر الشرقي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، هو بكل بساطة سبب ديني عنصري بحت، مؤداه أن تركيا (دولة إسلامية). فانضمام تركيا ذات السبعين مليون نسمة تقريباً، والذين يشكل المسلمون أغلبيتهم، يعني أن ما يقرب من العشرين في المائة من سكان أوروبا سيصبحون مسلمين. وهذا ما أشار إليه بصراحة الهولندي فريتس بولكشتاين مفوض التسويق الداخلي بالاتحاد الأوروبي، حين حذر من (أسلمة) أوروبا إذا انضمت تركيا للاتحاد، معتبراً أن عضويتها تمثل خيانة لانتصار (المسيحية) على العثمانيين عند أبواب فيينا عام 1683م!
وهنا بيت القصيد.
فإذا كان الأوروبيون يرفضون تركيا لأنها دولة (مسلمة) فإن من حق العرب، بنفس المعايير والمقاييس، أن يرفضوا (إسرائيل) أيضاً لأنها دولة غير مسلمة، لتصبح فكرة (الشرق الأوسط الجديد) التي تسعى الولايات المتحدة ومن خلفها أوروبا إلى ترويجها، بل وفرضها، لاستيعاب إسرائيل ضمن دول المنطقة، فكرة مرفوضة من أساسها بمعاييرهم قبل معاييرنا. لهذا فإن الخطاب الفكري والثقافي الذي تزعم أوروبا أنه يوجه سياساتها في الداخل والخارج هو خطاب مزدوج المعايير، يقوم في النهاية على أسس (دينية محضة)، قبل المصالح أحياناً، وإن ادعى خلاف ذلك.
غير أن الحقيقة التي لا بد من التعامل معها - شئنا أم أبينا - مفادها أن موازين القوة والضعف، لا المنطق والعدل، هي في النهاية (المبررات) التي سوّغت لأوروبا رفض تركيا، في حين تأبى أن تسوغ لنا رفض إسرائيل.
ومثال تركيا في تقديري هو مثال حي ونموذجي على (الأزمة الحقيقية) التي تواجه المجتمعات الإسلامية الحديثة. وهي (أزمة هوية) بكل المقاييس، تقوم وتتمأسس على: أين المصلحة؟، أكثر من: لأي الثقافات ننتمي؟. فالتحديات الاقتصادية هي تحديداً التي جعلت تركيا تبذل الغالي والرخيص للانضمام لهذا التكتل العالمي، كما أنها في الوقت ذاته نفس الأسباب التي جعلت بعض الدول العربية تذعن للسلام مع إسرائيل وتدخل في اتفاقيات معها، فالسبب في الحالة التركية اقتصادي، ومن أجل المصالح، حتى وإن كان على حساب الهوية، والسبب في (الحالات العربية) التي وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، هو - أيضاً - اقتصادي ومن أجل المصالح، وإن جاء على حساب الهوية، والثمن الذي من المتوقع أن تبذله تركيا من هويتها، رغم ما بذلته في تاريخها من أثمان باهظة منذ أتاتورك وحتى اليوم، لم يشفع لها عند الأوروبيين فمازالوا يطالبونها بالمزيد من أجل الدخول إلى ناديهم الاقتصادي.
كل ما أريد أن أقوله هنا أن المثال التركي يشير بمنتهى القوة والقسوة معا إلى أزمة المسلمين الحقيقية مع هويتهم وثقافتهم. فالتكتلات السياسية لأسباب اقتصادية، كما هو الحال في تجربة الاتحاد الأوروبي مثلاً، هي من أهم السمات التي تغلب على التحالفات السياسية المعاصرة. فالعالم اليوم يتجه إلى (الكتل) الاقتصادية الكبرى أكثر من أي وقت مضى، طلباً للقوة والمنعة من جهة ومن جهة أخرى أملاً في رخاء ورفاه شعوبه واستقرارها، والهرب بها من تبعات الفقر والعوز. وغني عن القول أن هذا لا يتحقق إلا بالاقتصاد والسير في ركب الأقوياء. والأسئلة الملحة التي يطرحها هذا المقال على ضوء ما تقدم: أيهما له الأولوية: المصالح أم الانتماء والهوية والثقافة؟. وأين نحن ثقافيا وسياسيا وحضاريا وتعليمياً من مواجهة هذه الحقائق؟. وهل خطابنا الإسلامي المعاصر على درجة من الوعي والنضج والعمق والمسؤولية، ناهيك عن الموضوعية والعقلانية، لمواجهة هذه التحديات، ومن ضمنها التحدي القادم لأسباب وبواعث دينية عنصرية محضة كما هو المثال التركي؟.
إنني - بصراحة - وأنا أسمع أو أقرأ هذا اللغط والصخب والديماغوجيا، وتلك السذاجة والبساطة في الطرح من حيث التناول والتحليل من قبل كثير من كتابنا، أو قل: مثقفينا، وبالذات ذوي التوجهات الإسلامية منهم، ناهيك عن تلك القضايا المغرقة في الهامشية التي تشغل اهتماماتهم، وتأخذ حيزاً كبيراً من كتاباتهم، أشعر أننا أبعد ما نكون عن فهم وإدراك (المأزق الحضاري) الحقيقي الذي نتعايش معه، والذي يمس جوهر كينونتنا (نكون أو لا نكون)، مما يجعلني كثيراً ما أتذكر عبارة سعد زغلول عندما وجد نفسه في أقسى حالات الإحباط: (غطيني يا صفية، ما فيش فايده!). والسؤال: إذا كان لدى الزعيم المصري من يغطيه فمن يغطينا نحن ثقافياً وفكرياً، السلفية الجهادية مثلاً؟!.
|