كثيرون هم الرجال الذين نكتب عنهم ونعجب بهم ونشدو بمكارمهم، وهذا أمر مشروع لا نقاش فيه وهي جادة مطروقة في كتب التراجم والتاريخ، لكننا قلما نتحدث عن النساء ذات الدور التربوي والأثر الطيب ومآثرهن في مجتمعنا مع أن هذا المجتمع المعطاء زاخر بتجارب نسائية زاخرة كبيرة تستحق أن نقف كثيراً عندها ونتأملها وحينما يكون الحديث عن النساء لا نتحدث إلا عن نساء مشهورات يعرفهن الجميع ونتغاضى عن تجارب مغمورة لكنها بحضور أخاذ.
لكني هنا ومع تقديري للنمط السائد في الحديث عن المشاهير إلا أني سأتحدث عن سيدة لم تساندها الأضواء وساندتها الأفعال، ولم يسمع كثير من المجتمع بها، لكن من سمع تجربتها سيغبطها كثيراً.
دليل بنت ناصر الصوينع امرأة بألف رجل وسيدة بجيل كامل تربوي من طراز فريد ونادر، فقدت زوجها الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله العسيلان قبل قرابة ربع القرن في سنة 1401هـ) رحمه الله تعالى وغفر له في وقت جل أبنائها أطفال صغار أو صبيان في مقاعد الدراسة والتعلم وأكبرهم خارج أرض الوطن في الولايات المتحدة للتعلم ومع هذه الظروف الصعبة التي لو حلت برجل لأفقدته لبه وعقله إلا أنها سنوات قليلة وتجد كل أبنائها في مقاعد الوظيفة وخدمة الدين والوطن وبناتها ربات بيوت مهتمات ببيوتهن وأزواجهن وكل ذلك بتوفيق الله ثم بجدها وصبرها.
فقدت زوجها ولديها مجموعة من الأبناء صغار السن والخبرة بالحياة ثم ما هي إلا سنوات وهؤلاء الأبناء أنفسهم خير من يقتدى به سلوكاً وخلقاً وأدباً وكأنهم ساروا على طريقة نجدها في كتب التراث حين تتكفل المرأة بأبنائها وتلجأ الى الله ويكون ربها خير عون لها في مسيرة الحياة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وكأن لسان حالهم يردد حادثة روتها لنا كتب التاريخ أن كثيراً من الرجال الذين أثروا الحضارة لم يأخذوا تربيتهم من الرجال بل كان الذي رباهم أمهاتهم ومنهم على سبيل المثال الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) والمؤرخ ابن كثير صاحب كتاب البداية والنهاية وتفسير ابن كثير (ت774هـ) ومنهم في عصرنا الحاضر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (ت1420هـ) الذي يدين لوالدته بالفضل الكبير بعد الله في تربيته وتوجيهه، فالأم الصالحة مدرسة عظيمة.
وها نحن نرى ونشاهد ونسمع عن أبناء بقربهم من والديهم وبكامل حضورهم ولا يستطيعون أن يقوموا بواجب التربية على نحو بسيط مما قامت به هذه المرأة.
أم سعود هذه ليست من أغنى النساء لكنها كسرت قلة ذات اليد وكان بيتها معلماً في اجتماع الأقارب وصلة الرحم وهي رائدة في الكرم والقيام بحق الضيف ولا يخفى على كل أقاربها وأرحامها دعواتها المتكررة طول العام وبخاصة دعوتها الرمضانية السنوية التي يحضر لها الجميع فيمتلئ المجلس بهم حتى يكون بعضهم وقوفاً.
وكما يقول الأستاذ عبد الرحمن الصوينع إنها تقول (الضيق في الأنفس) لمن يظن أن هذا يعد ضيقاً في المكان.
وهي أيضا صاحبة يقين بالله أن الله هو الرزاق فيما ذهب في طريق الخير فالله سبحانه وتعالى يعوض المنفق في الدنيا والأخرى.
وهذه السيدة صاحبة رأي حصيف وتوجيهات مسددة موفقة، تجمع ولا تفرق وتوجه فيكون الصواب دائماً حليفها.
ومن جميل صفات هذه المرأة التي تسير في العقد السابع من عمرها الحياء الذي عرفناها في سيدات هذا المجتمع فهي حيية خجولة يمنعها الحياء عن التحدث فيما لا يستحسن من الكلام، ويمنعها خلقها من استخدام العبارات النابية حتى بحق من يستحق من العابثين من الصغار أو الكبار.
منذ أن خرجنا إلى هذه الدنيا وتحديداً قبل عقدين من الزمان وأنا أتذكرها بصفات يستحيل أن تجتمع في امرأة لكن هي أم سعود وفقها الله إلى ذلك.
أتذكرها جيداً حين يغص بيتها الصغير بنا نحن أبناء أقاربها من أبناء عمومة وأخوال وبقية الأقارب في مشهد يزعج أي ربة بيت إلا أم سعود - والله الشاهد على ذلك - لم نشاهد منها إلا ابتسامة أم حنون وخدمة راقية مع أننا كنا صبية نتنافس في من يكون مشاغباً أكثر وكانت تبادل شقاوتنا بالكلام الطيب وعبثنا بوجبات دسمة لا ينسى طعمها ولا مذاقها.
قد لا يعرفها الكثير من الناس لكني أجزم بأن تجربتها في الحياة كبيرة فتربية ولد واحد تعد شاقة فما بالكم بمجموعة من الأبناء وتأهيلهم على وضعية طيبة لاشك أن ذلك توفيق من الله سبحانه وتعالى.
ومن جميل أمر هذه السيدة أن التربية النموذجية تجري في دمها فكما كانت عوناً لأبنائها في سلوك سبيل الخير والاستقامة فها هي تربي الأحفاد على القيم والمكارم وبخاصة الصلاة عمود الدين وها هم أحفادها يحفظون لها ذلك حتى أني رأيت الآخرين في المناسبات حين يرون بعض أحفادها أول ما يوجهون لهم من سؤال (وشلون أمك دليل) فهي لها من اسمها نصيب فهي دليل في الخير، ودليل إلى تربية نموذجية.
ومن مزايا هذه السيدة الكريمة أن الله وفقها سبحانه وتعالى إلى نعمة قل من يقوم بها من الناس وهي قيام الليل ومناجاة الله سبحانه وتعالى والدعاء في هذه الأوقات الفاضلة الكريمة.
وهذه السيدة ليست ككثير من النساء اللاتي أضحى التنقل والذهاب يمنة ويسرة ديدنهن وطريقهن بل هي لا تتجاوز في تنقلها سوى أماكن معدودة عرفت بها فهي ما بين صلة للرحم أو في رحاب بيت الله أو في مسقط الرأس روضة سدير وبالقرب من أخويها الكريمين (إبراهيم وعبد الله) وأبنائهما.
وإن كان الحديث عن هذه السيدة الفاضلة مهماً فهو لا يكمل إلا بذكر سيدات كن قريبات منها ولا ينقصن عنها في هذه الصفات وهن كالنجوم التي يهتدي بهن الساري ممن كانت تربطني بهن قرابة أو مصاهرة أو رحم، وعلى رأسهن السيدة الوقورة نورة بنت سليمان الصوينع أمد الله في عمرها وألبسها لباس الصحة والعافية، وأختها الكريمة الفاضلة منيرة بنت سليمان الصوينع اللاتي أذكر لهن مواقف تربوية طيبة وأخلاقاً إسلامية عالية، وكن معها وغيرها يمثلن جيلاً فريداً من النساء اللاتي شاركن الرجال في حمل هم التربية ولم يكن مثل بعض النساء اللاتي يقتصر دورهن على التغذية والتسمين.
ما تطالعه أخي القارئ الكريم في مجمله ذكريات عن هذه السيدة الكريمة كان آخر رؤية لي لها قبل ما يزيد على العشرين عاماً لكن طول هذه السنوات لم يتوقف ذكرها الطيب أن يرن في أذني وكلما شاهدت أحد أبنائها أو أحفادها أو أسباطها أعرف أن وراء هذه الوجوه الطيبة أماً كريمة، قد لا يكون من المناسب أن أقولها في وجوه أبنائها لكن من المهم أن أنقل هذه التجربة - وبكل أمانة - للقراء الكرام من الرجال والنساء لأن هذا المجتمع الكبير لن يخلو من سيدات من هذا الطراز، لابد أن نوثق سيرتهن العطرة حتى لا تصبح أخبارهن أحاديث فيما بيننا.
وقبل أن يلقي القلم عصا التسيار في الحديث عن أم الرجال هذه السيدة الكريمة أشكر الأخ الكريم الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم الصوينع ابن أيها وزوج ابنتها ووالد الوردتين (منيرة ودليل) على ما أمدني به من معلومات عن هذه السيدة الفاضلة فله ولزوجته الكريمة جزيل الشكر وأوفى التقدير.
|