لا تكاد نسمات رمضان تهب وأيام هذا الشهر الفضيل تأتي إلاَّ ويهبُّ المسلمون إلى أفعال الخير، وينطلقون إلى دروبه ويتسابقون فيها؛ فهو شهر الكرم وشهر الإحسان وشهر الطاعات التي تعوَّد المسلمون عليها منذ أن فضَّل الله سبحانه هذا الشهر على ما عرفه الناس من شهور، ففيه أنزل القرآن الكريم، وهذا شرف لا يعادله شرف، فقد جاء القرآن خاتماً للكتب المنزلة، وجاء الإسلام خاتماً للديانات، بعد أن أصبحت البشرية مُهيأة لشرف استقبال هذه الرسالة الخاتمة.
والتسابق في فعل الخير في شهر رمضان سمة تميز المسلمين لما يعلمونه من فضائله ومضاعفة الأجر والثواب فيه، فقد خصَّ الله سبحانه صوم المسلم بأجرٍ مضاعف أسنده لكرمه سبحانه، فجاء في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له، إلاَّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ولما كان الصوم على هذه الدرجة من التقدير، حيث جعل الخالق عزَّ وجلَّ (الصوم له)، فإن المسلم عليه واجب كبير يتمثل في إخلاص هذه العبادة لله وحده، وأن يحافظ عليها ويحرص على إتقانها كما علَّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يمتنع عن الطعام والشراب والمفطرات فقط، بل عليه أن يحيط صيامه بكل سلوك ينقي صيامه من الشوائب ويجعله أهلاً للقبول ممن يعلم السرَّ وأخفى. فقد أرشدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك فقال: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل إني صائم) متفق عليه.
وما أحسنه من درس، ذلك الذي يربي فينا السلوك الذي نحافظ به على إخلاص العبادة لله وحده، حتى إذا ما تعرض صائم لسباب أو مخاصمة فإنه وحتى يحافظ على صيامه لا يتعدى ردُّ فعله إلا أن يقول (إني صائم). وهل بعد ذلك سلوك أرقى من ضبط النفس وردِّ الشر والتفوق على غرائز النفس الأمَّارة بالسوء؟
وهكذا ارتبط الصوم بسلوكنا -نحن المسلمين- نحو غيرنا في المواقف اليومية التي نكون عُرضة لها، كما ارتبط باخلاص العبادة وهي الصفة التي يجب ان تتصف بها سائر العبادات؛ ذلك لأن المسلم يجب أن يجعل حركاته وسكناته ونوماته ويقظاته وكافة سلوكه في طاعة الله، فقال تعالى {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ} (162-163) سورة الأنعام.
ولما كان كثير من الناس يتسابق في رمضان على مظاهر الكرم والتصدق والإحسان فإن هذا التسابق في حدِّ ذاته هو أمر يحمد لهم ويشكرون عليه.
وهنا فإن الواجب يفرض عليهم أن يُخلصوا هذه الأعمال لوجه الله سبحانه، فالإسلام لا يعتدُّ بالصدقة إلاَّ إذا خلصت من شوائب النفس وصارت خالصة لله وحده تمسكاً بقوله سبحانه {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا } (9) سورة الإنسان، وعملاً بقوله الكريم {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى {18} وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى {20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى} {21} الليل.
وهكذا.. فإن قيمة العمل في الإسلام ترتبط بطبيعة البواعث التي تكمن وراءه، مما يجعل المسلم أمام واجب إخلاص النية في كافة أعماله حتى تلقى قبول ربِّ العالمين؛ فقد أشار سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك في نصيحته وتوجيهه السديد الباقي ليأخذ بأيدينا نحو الفلاح في الدنيا والآخرة حيث قال: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاَّ أُجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك) البخاري.
وقد اتسعت جوانب الخير التي يجب أن يندرج فيها المسلمون بكل إخلاص.. وهي في هذا الشهر الكريم أدعى بالمحافظة عليها وإحاطتها بقلوب نقية صافية تدرك حقيقة ما دعانا إليه الرسول الكريم حين قال: (ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة) رواه أحمد.
وهذا الثواب الذي يناله المسلم من إطعام الطعام إذا أخلص عمله لوجه الله هو الذي دفع المسلمين إلى هذه الصفة المحمودة لهم في رمضان من تسابق على إطعام الطعام وتفطير الصائمين وحرص على نيل الخير في مختلف صوره وأشكاله، والسعيد الفائز بين أولئك هو الذي يحرص على أن يكون عمله خالصا لله، فالنية الصادقة الخالصة لله في كافة الاعمال هي التي تهيئ العمل للقبول، وعلى قدر نقاء السريرة وصفائها تكون مضاعفة الأجر والثواب، فقد قال صلى الله عليه وسلم (ان الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم.. ولكن ينظر إلى قلوبكم) مسلم.
إن الإخلاص المطلوب من المسلم في كافة أعماله يباعد بينه وبين الرياء الذي هو من أفتك العلل التي تصيب الفرد والمجتمع، ولذلك فقد كانت حملات الإسلام على الرياء حتى لا يستفحل مرضه بين الناس فيطفئ حلاوة الإخلاص وثمرته، وتسود الأحقاد بين البشر، والأسوأ من ذلك إفساد الأعمال التي لم تكن خالصة لوجه الله، ولعل لنا في نموذج الصلاة التي ترتبط بالرياء مثالاً يجب ان نحذره في رمضان وغير رمضان مادمنا نأمل قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ {4} الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ {5} الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ {6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} {7} الماعون.
وهكذا فإن الأجور تتفاوت والثواب يتضاعف ويتفاوت وفقاً لسرِّ الاخلاص الكامن في الصدور، والذي يطلع عليه علام الغيوب. وعلى قدر السريرة التي تخلص العبادة والطاعة لله يكون الأجر والثواب وارتفاع الدرجات.
فما أحرانا في هذه الأيام المباركة أن نراجع أنفسنا في أفعالنا وتصرفاتنا لنجعلها خالصة لله، واضعين أمام أعيننا دائماً قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة, ليوم لا ريب فيه، نادى مُنادٍ: من كان أشرك في عمله لله أحداً، فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك). الترمذي.
ندعو الله أن يوفقنا جميعاً لصالح الأعمال، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
والله الموفق.
|